تأملات في حجة الوداع (14)

  • 298

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعند الحديث عن دَورنا في مقاومة "حكم الجاهلية" في مجتمعاتنا فهو يتضمن محاور عدة، مِن أهمها:

- تعليم الناس وجوب التحاكم إلى مَن يحكم بينهم بشرع الله، بحكم الكتاب والسُّنة مِن علمائهم، وأن ذلك واجب عليهم شرعًا، ولا يسعهم أن يؤخِّروا هذا الفرض إلى حين التطبيق للشريعة؛ خصوصًا أن التدرج عند أقوامٍ كثيرين ليس مبنيًّا على الضوابط الشرعية للتدرج -مِن اعتبار القدرة والعجز، واعتبار المصلحة والمفسدة، واعتبار استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، والتحقيق العلمي لمسائل النزاع-؛ وإنما التدرج عندهم مَرَدّه إلى الأهواء والتسويفات؛ لذلك نقول: لا يسع أحدًا أن يؤخِّر هذا الفرض إلى حين تطبيق الشريعة.

والعلماء المجتهدون وإن لم يكن لهم القوة المادية لإلزام الناس بالأحكام، أو لتطبيق كل أحكام الشريعة، أو قد يترتب مفاسد مِن تنفيذ بعض الأحكام ربما تفوق مصلحة إقامتها -كالحدود وإقامة القصاص في القتل-؛ إلا أن قوة إيمان المسلم تدفعه لقبول حكم الشرع ولو لم يكن هناك ما يلزمه بالقوة المادية، ومع زيادة الإيمان يزداد -بإذن الله- مَن يطبِّقون هذا ويلتزمون به مِن أنفسهم، وعليهم جميعًا أن يطبقوا كل ما يقدرون عليه مِن الأحكام في ضوء قاعدة المصلحة والمفسدة المرعية شرعًا، وما عجزوا عنه فلا يُكَلَّفونَ به (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا(البقرة:286).

ومِن أهم النقُول في ذلك قول شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه؛ فمتى أمكن إقامتها مِن أميرٍ لم يُحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعددٍ ومِن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها مِن باب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ فإن كان في ذلك مِن فساد وُلَاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يُدفع فسادٌ بأفسد منه. والله أعلم" (مجموع الفتاوى، 34/ 176).

وعلى كل حال، فالمسلم حين يدعو إلى التحاكم للشرع دون غيره فقد خرج مِن حكم الرضا بحكم الطاغوت؛ فإذا أُوقِف مضطرًا أمام بعض المحاكم التي تحكم بقوانين مُخَالِفة للشرع؛ فعليه أن يدعوهم ويأمرهم أن يحكموا له بحقه الشرعي فقط الذي عَلِمَه مِن أهل العلم، وكذلك مَن ترافع أمام هذه المحاكم لِدَفْع الظلم عن مسلم أو رَفْعِه فعليه أن يطلب مثل ذلك، ومن يَطلب هذا الحق لنفسه أو لغيره مِن المسلمين فلا جناح عليه مهما كان المطلوب منه؛ فإنه لم يَأمر إلا بمعروف.

ويحتاج الأمر أيضًا: إلى التنبيه إلى أن كثيرًا مِن أحكام القوانين لا تخالِف الشريعة في كثير مِن الأحوال الشخصية، في الزواج والطلاق والميراث، وكذلك في كثيرٍ مِن القوانين في العقود التي مدارها على وجوب الوفاء بالعقود، عدا مسألة الربا فإنها مِن أخطر ما يُلزم به في القوانين الوضعية؛ لكن أكثر القوانين المدنية تتفق مع بعض المذاهب الإسلامية -أو كلها- في كثيرٍ مِن الأمور، ومثل هذا إذا عَلِمه المتحاكِم والقاضي والمُدَافِع المحامي لم يكن في ذلك تحاكم إلى الطاغوت طالما طلب إقامة الحكم الشرعي الذي يوافق الشريعة دون غيره، ولو كان ضمن القوانين.

ومِن هذه المحاور: الحفاظ على مرجعية الشريعة في دساتير البلاد الإسلامية؛ فإنها وإن لم تطبَّق إلا إنها تحقق الجانب العقدي العظيم الأهمية في هذا الباب بقبول حكم الله، ورفض ما سواه، ورفض الجانب العقدي الفاسد مِن الديمقراطية الغربية التي تجعل التشريع والتحليل والتحريم حقًّا للناس، حسب أهوائهم وسخافات عقولهم.

ومِن هذه المحاور: توفير مَن يتمكن مِن الفصل بيْن الناس في خصوماتهم بحكم الكتاب والسُّنة، ويصلح بينهم في مجالس شرعية، مِن طلاب العلم وأهله، والقانون يسمح بذلك، ويجعله ملزمًا إذا تعاقد الخصمان على ذلك، وهذا يستلزم بناءً علميًّا متينًا في أبواب القضاء وأبواب الفقه المختلفة، ويستلزم عملًا مجتمعيًّا ودعويًّا واسع المدى، لتجنيب مجتمعاتنا "حكم الجاهلية"، وللدعوة السلفية -بحمد الله- تجربة فريدة في هذا الباب في أماكن مختلفة مِن البلاد؛ حتى صار المسلمون -بل وغير المسلمين- يقبلون التحاكم إلى أهل العلم وفق الشريعة، ومع التوثيق القانوني لذلك، ليحصل الخير الكثير بالإلزام والالتزام بأحكام شرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

ومِن سمات الجاهلية التي حَذَّرَ منها كتاب الله: "حَمِيَّة الجاهلية"، قال الله -تعالى-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ(الفتح:26)، وهي الأنَفَة والاستكبار عن الحق، وكان مِن ذلك إباؤهم أن يُكتب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" في صلح الحديبية، وإباؤهم أن يكتب: "مُحَمَّد رَسُول اللهِ".

والعصبية الجاهلية مما حذر منه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مواطن عديدة فقال: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ(رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ، وَلا تُكَنُّوا(رواه أحمد، وصححه الألباني).

ولا شك بأن بناء المجتمع المسلم على أُخُوَّة الإسلام دون عَصَبَات العائلة أو القبيلة أو القوم مما يرسِّخ روح التفاهم والأُلْفَة بيْن أفراد المجتمع، ويحافظ على تَماسُكِه، ويُجَنِّبه الطائفية المُدَمِّرَة والاستقطاب الهَدَّام الذي يُشعِل الحروب والنزاعات ويُخَرِّب الدولة ويُفَرِّق الكلمة.

ويتميز المجتمع المسلم بعقد الولاء على أوثق عرى الإيمان؛ الحب في الله، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أوْثَقُ عُرَى الإِيمانِ الموَالاةَ فِي الله والمعاداة فِي الله والحبُّ فِي الله والبُغْضُ فِي الله(رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وهو يجعل المسلمين أُمَّةً واحدة في الأرض كلها، قال -تعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(المؤمنون:52)، ولا شك أن تأسيس المجتمع، على رابطة الإيمان والدين يجعل الروابط والوشائج الأخرى داخل المجتمع، مثل: اللغة والوطن الواحد، والقومية الواحدة، والقبلية إذا لم تكن معارضة لهذا الأصل، تصبح مُعَضِّدةً لبناء المجتمع ومُقَوِّية له لا هادمة، بتوفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- وحمده؛ ولهذا يتميز الفهم الإسلامي السليم بالحفاظ على بناء المجتمع، وتعميق روح الأخوة، وعدم مُصَادَمة ما فَطَر الله العباد عليه مِن ارتباطهم بأُسَرِهم وعائلاتهم وقبائلهم، وأوطانهم وأقوامهم، بل يكون ذلك مِن الروافد المُقَوِّية لرابطة الإسلام.

أما حين يصبح بديلًا عن الإسلام وضده ومُقَدَّمًا عليه، فإن ذلك مِن العصبية الجاهلية التي مَن قَاتَل لتعزيزها فقد مات ميتة جاهلية، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ(رواه مسلم).

ومِن أخطر مظاهر الجاهلية: ربا الجاهلية، الذي وَضَعه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحت قدميه وأبْطَلَه وبَدَأ بأُسْرَتِه وعائلته، وأبطل ربا العباس بن عبد المطلب.

وحذر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الربا أشد التحذير في أحاديث متواترة، مِن ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ(متفق عليه).

وعن سمرة بن جندب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ، آكِلُ الرِّبَا(رواه البخاري).

وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ" (رواه مسلم)، وفي رواية لِمُسْلِمٍ أيضًا عن جَابِرٍ: "وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ"، وعن عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ" (رواه البخاري)، وعن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (الرِّبَا ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ(رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (دِرْهَمُ رِبًا يَأكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً(رواه أحمد، وصححه الألباني)، وروى أحمد بإسنادٍ جيدٍ عن كعب الأحبار قال: "لَأَنْ أَزْنِيَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَمَ رِبًا، يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْتُهُ حِينَ أَكَلْتُهُ رِبًا" (رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ)، ولهذه الأحاديث طرق كثيرة.

وكل هذا موافق لكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(البقرة:278-279).

وما الخراب الحاصل في العالم مِن الجهة الاقتصادية إلا بسبب قيام الاقتصاد العالمي على الربا، وإن سَمَّاه الناس بغير اسمه، وحاول البعض تمريره بفتاوى باطلة مخالفة للإجماع؛ فإنه سيظل سببًا للدمار والخراب، وازدياد الغَنِيِّ غِنَى والفقير فقرًا، حتى يُضرب المجتمع بالغِنَى المُطْغِي والفقر المُنْسِي.

نعوذ بالله مِن الفتن، ونسأل الله أن يجنبنا الجاهليةَ كُلَّها.