أدب الحوار (3)

  • 231

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فـنستكمل حديثنا في هذا الجزء مع الأدب الثالث مِن آداب الحوار.

3- تحديد موضوع النقاش وتحرير محل النزاع فيه:

- لابد أولًا مِن تحديد الموضوع الذي سيتم النقاش حوله بيْن المتحاورين والهدف مِن هذا النقاش، وعدم التشعب إلى موضوعٍ آخر إلا بعد الانتهاء منه.

فالحوار يموج ويضطرب أشد الاضطراب إن لم يمنع الاستطراد والتشعب بيْن الموضوعات؛ لذا كان الشافعي -رحمه الله- كما قال عنه الربيع بن سليمان-: "إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها، يقول: نفرغ مِن هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبْل انتشاره وثوران النفوس" (أداب العلماء والمتعلمين).

- ثم يجب بعد ذلك تحرير محل النزاع في ذات الموضوع المطروح، والمقصود هنا بتحرير محل النزاع هو: تعيين وجه الخلاف بيْن المتحاورين، والوقوف على الموضع المختلف فيه بالتحديد؛ ليخرج مِن النزاع ما ليس منه.

فتكون النتيجة وضوح الرؤية والوصول للحق بسهولةٍ ويسرٍ سواء للمتحاورين أو السامعين بعيدًا عن حوار الطرشان الذي يَنتج مِن القفز على هذه الخطوة الهامة أو تناسيها، فيصير كل طرف مِن المتحاورين في وادٍ يتكلم ويحشد فيه أدلته بغض النظر عن كونها تصلح في محل النزاع أم لا؟ فتتسع فجوة الخلاف ويتحول إلى جدلٍ بيزنطي لا فائدة منه.

- وانظر -رحمني الله وإياك- إلى حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- كما جاء في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: فَقَالَ لِي: (يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟!) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟!)، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (متفق عليه).

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحوار ركَّز على أصل القضية مع أسامة -رضي الله عنه- مِن أنه قتل الرجل بعد قوله: "لا إله إلا الله"، مع كونه لم يأتِ بناقضٍ لها بعد النطق بها.

ولم يتشعب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أسامة في الأسباب التي حاول أن يسوقها -رضي الله عنه- لتسويغ فعله مِن كون الرجل كان متعوذًا أو كونه قد قَتل مِن الصحب الكثير أو غير ذلك، قبْل النطق بكلمة التوحيد.