حرب أكتوبر 1973م في مذكرات "جولدا مائير"

  • 291

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعند وقوع حرب أكتوبر عام 1973م كانت "جولدا مائير" تشغل منصب رئيسة الحكومة الإسرائيلية، أي عاشتْ أيام الحرب، وهي المسئول السياسي الأول في الدولة، وقد كتبت مائير عن هذه الحرب في مذكراتها، ولا شك أن ما كتبته عنها له أهمية كبيرة تستحق مِن أجلها الاطلاع عليه.

مَن جولدا مائير؟

- ولدت جولدا في مدينة (كييف) بروسيا عام 1898م، ثم هاجرتْ إلى أمريكا مع عائلتها في عام 1906م، وتخرجت مِن مدرسة المعلمين وعملتْ بالتدريس، وهاجرت مع زوجها إلى فلسطين عام 1921م.

عملت في مختلف المهن بيْن اتحاد التجارة ومكتب الخدمة المدنية، وساهمتْ في العمل السياسي.

- جمعت نحو 500 مليون دولار تبرعات مِن يهود أمريكا خلال حرب 1948م؛ لشراء أسلحة ومعدات للعصابات الصهيونية.

- بعد قيام دولة إسرائيل عُيِّنت أول سفيرة لإسرائيل في موسكو عام 1948م، ثم شغلت منصب وزيرة العمل في الحكومة الإسرائيلية مِن عام 1949م إلى عام 1956م، ثم وزيرة للخارجية مِن عام 1956م إلى عام 1966م في أكثر مِن تشكيلٍ حكومي.

- تولت منصب السكرتير العام لحزب العمل الموحد في عام 1969م، ثم تولتْ رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 1969م بعد (ليفي أشكول).

- اشتهرت بالتشدد مع العرب وإنكار وجود الشعب الفلسطيني، وخلال رئاستها للحكومة كانت الهزيمة في حرب أكتوبر، فانخفضت شعبيتها، وتعرضت بعدها لضغوطٍ داخليةٍ قدَّمت على أثرها استقالتها، وقد توفيت في ديسمبر 1978م، ودفنت في القدس.

تقول جولدا عن حرب أكتوبر: "ليس أشقُّ على نفسي مِن بيْن كل الموضوعات التي كتبتُ عنها في هذا الكتاب، قدر أن أكتب عن حرب أكتوبر1973م، حرب يوم كيبور، لكنها حدثت، ومِن هنا لابد أن أكتب عنها، لا مِن الناحية العسكرية، فذلك أمر أتركه لآخرين، وإنما ككارثةٍ ساحقةٍ، وككابوسٍ عشته بنفسي، وسيظل باقيًا معي على الدوام! فقد وجدتُ نفسي في موقفٍ كنت في قمة المسؤولية في الوقت الذي واجهتْ فيه الدولة أكبر خطر عرفته، وما زال هناك حتى على الصعيد الشخصي الكثير مما لا يمكن قوله الآن؛ ولذا فإن ما سأقوله ليس هو كل شيء... لكنه الحقيقة، وشعرتُ به خلال مجرى هذه الحرب".

ما قبْل الحرب:

تقول جولدا: "لابد أن أعود بالذاكرة أولًا إلى شهر مايو عندما وصلتنا معلومات عن تعزيز القوات المصرية والسورية على الحدود، ولم يرَ رجال مخابراتنا أن الحرب قد تندلع، لكننا مع ذلك قررنا معالجة الموقف بجديةٍ، وذهبتُ بنفسي آنئذٍ إلى مقر القيادة العامة، حيث التقيت بوزير الدفاع ورئيس الأركان، واستعرضت معهما درجة استعداد القوات المسلحة واقتنعتُ بأن الجيش مستعد لكافة الطوارئ، بما في ذلك الحرب الشاملة".

وتقول جولدا: "وبدأنا في شهر سبتمبر نتلقى معلومات عن احتشاد القوات السورية في مرتفعات الجولان، وفي اليوم الثالث عشر مِن هذا الشهر وقعتْ معركة جوية تم فيها إسقاط 13 طائرة سورية مِن طراز ميج. ورغم ذلك أكد لنا رجال المخابرات أنه ليس مِن المتوقع أن يقوم السوريون برد فعلٍ كبيرٍ".

وتذكر جولدا أنها في يوم الأربعاء أول أكتوبر عقدت اجتماعًا مع قادة الجيش والمخابرات حول الموقف العسكري، وكان الترجيح أن التحركات المصرية مناورات تجري في مثل هذا الوقت مِن العام، وأن سوريا لن تهاجم إسرائيل بمفردها، وأن نقل الوحدات السورية مِن على الحدود الأردنية هو نوع مِن الوفاق بيْن الدولتين، وإظهار حسن النية مِن سوريا تجاه الأردن.

تقول: "وتلقينا في يوم الجمعة 5 أكتوبر تقريرًا أثار قلقي! إن عائلات المستشارين الروس في سوريا تحزم أمتعتها وترحل في عجلٍ".

وتضيف: "وسألت وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات عما إذا كانت هذه المعلومة تعتبر هامة... فوجدتُ أنها لم تغير مِن تقديرهم للموقف"، "وتلقيتُ تأكيدًا بأن لدينا إنذارًا كافيًا لأي متاعب... كما أن تعزيزات قد تم إرسالها إلى الجبهات لصد أية عمليات عند اللزوم... وقد تم اتخاذ اللازم، فوضع الجيش في أقصى حالات التأهب، خاصة الطيران والمدرعات".

وتذكر جولدا أنها عقدت اجتماعًا للحكومة طارئًا، حضره رئيس الأركان ورئيس المخابرات يوم الجمعة 2 أكتوبر لاستعراض التقارير، ولم يبدُ الانزعاج على أحدٍ، وانفض الاجتماع وهي ما زالت تفكر في خطر الحرب في حين أن رئيس الأركان الحالي والسابق، ورئيس المخابرات، والمصادر الأجنبية التي هي على اتصال مستمرٍ معها يقطعون بأن احتمال الحرب بعيدٍ.

وتلوم نفسها فتقول: "أما اليوم فإنني أعلم ما الذي كان ينبغي عليَّ أن أفعله، كان يجب عليَّ أن أتغلب على ترددي، لقد كنتُ أعلم كغيري ما الذي تعنيه التعبئة العامة، ومقدار الأموال التي تتكلفها؟ وكنت أعلم أيضًا أننا منذ عدة أشهر في مايو، تلقينا إنذارًا وقمنا باستدعاء الاحتياطي ولم يحدث شيء، لكنني فهمتُ أن الحرب ربما لم تقع في مايو لنفس هذا السبب، وهو أننا استدعينا الاحتياطي.

كان يجب عليَّ في صباح يوم الجمعة هذا أن أستمع إلى إنذار قلبي وأستدعي الاحتياطي وآمر بالتعبئة، إن هذه حقيقة بالنسبة لي لا يمكن أن تنمحي، وليس هناك عزاء فيما قد يقوله أحد أو في كل التهدئة والتحجج بالعقل الذي حاول زملائي تهدئتي به".

وتضيف فتقول: "وليستْ المسألة شعورًا بالذنب، إنني أنا أيضًا أستطيع أن أحتكم إلى العقل، وأقول لنفسي: إن في مواجهة مثل هذا اليقين الكلي مِن جانب مخابراتنا العسكرية، والقبول الكلي بقدرٍ مساوٍ لتقديراتها مِن جانب أبرز رجالنا العسكريين؛ فإن إصراري على الأمر بالتعبئة كان سيبدو أمرًا غير مقبول! لكنني أعلم أنه كان عليَّ أن أفعل ذلك، وسوف أحيا بهذا الحلم المفزع بقية حياتي، ولن أعود مرة أخرى نفس الشخص الذي كنته قبْل حرب يوم كيبور".

يوم 6 أكتوبر:

 تذكر جولدا إنه في الرابعة مِن صباح يوم السبت 6 أكتوبر أخبرت تليفونيًّا بأن معلومات مِن مخابراتٍ موثوقةٍ تفيد بأن المصريين والسوريين سوف يشنون هجومًا مشتركًا في وقتٍ متأخرٍ مِن بعد ظهر اليوم، فعقدت اجتماعًا مع رجالها العسكريين، فأوصى رئيس الأركان بتعبئة كل سلاح الطيران وأربع فرق، وأنه إذا تم الاستدعاء فورًا فسيكون بإمكان هذه القوات أن تتحرك وتعمل في صباح اليوم التالي، أي الأحد 7 أكتوبر، وكان مِن رأيه البدء بضربةٍ جويةٍ إجهاضيةٍ ما دام أن الحرب قد باتت واضحة، وأن سلاح الطيران يمكن أن يكون جاهزًا للضربة الوقائية عند الظهر حال الأمر بذلك، أما موشيه دايان -وزير الدفاع- فكان يحبذ تعبئة سلاح الطيران واستدعاء فرقتين فقط؛ بدعوى أن التعبئة العامة قبْل إطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل، أو قيام إسرائيل بضربةٍ إجهاضيةٍ، قد تكون سببًا في اتهام إسرائيل ببدء العدوان، خاصة وأنه يمكن معالجة الموقف بسلاح الطيران وفرقتين، فإذا ساء الموقف يمكن استدعاء المزيد خلال ساعات.

ورأت جولدا أن القيام بضربةٍ وقائيةٍ قد يمنع إسرائيل مِن الحصول على مساعدةٍ مِن أحدٍ إن احتاجت إليها في المستقبل، كما لم تؤيد التعبئة العامة، وطلبتْ عقد اجتماع للحكومة ظهرًا، وأبلغت السفير الأمريكي وقتها بتقارير المخابرات بأن الهجوم سيكون في ساعة متأخرة مِن اليوم، وأن إسرائيل لن تبدأ بالضربة الأولى، على أمل أن تتدخل أمريكا أو روسيا مع المصريين والسوريين؛ لمنع وقوع حرب.

الحكومة تفاجأ بالحرب:

تذكر جولدا أن الحكومة استمعتْ في اجتماعها ظهرًا إلى وصفٍ كاملٍ للموقف، وبينما هُمْ مجتمعون جاء الخبر بأن الضرب بدأ، وسمع في نفس اللحظة تقريبًا صوت صفارات الإنذار في تل أبيب، وبدأت الحرب.

وكانت الصدمة... لم يتم الإنذار في وقتٍ مناسبٍ، والضرب على جبهتين، والعدو متفوق مِن الناحية العددية في السلاح والرجال، وثبت خطأ الافتراضات الأساسية للحكومة ولقادة الجيش، ولم يكن ممكنًا أن تكون الظروف أسوأ مما هي عليه.

وظلت الاجتماعات مستمرة في مكتبها وغرفة الحرب طوال النهار والليل، تتخللها مكالمات تليفونية مِن واشنطون وأنباء سيئة مِن الجبهات.

تقول جولدا: "لكننا حتى في أحلك الأيام تلك التي عرفنا فيها مدى الخسائر التي لحقتْ بنا، لن نفقد إيماننا بجنود جيش الدفاع الإسرائيلي".

وتضيف: "ولا أظنني سوف أنسى ذلك اليوم الذي سمعتُ فيه أسوأ التنبؤات المتشائمة".

يوم 7 أكتوبر:

تذكر جولدا أن دايان عاد مِن جولاته على الجبهة عصرًا وقابلها على الفور، وكان رأيه أن الموقف على الجبهة الجنوبية (الجبهة المصرية) يوجب الانسحاب الجذري، وإقامة خط دفاعٍ جديدٍ.

تقول جولدا: "واستمعتُ إليه في فزعٍ". وحضر رئيس الأركان فاقترح الاستمرار في الهجوم في الجنوب، مع الإذن له بالذهاب إلى القيادة الجنوبية للإشراف على سير الأمور بنفسه، مع السماح له باتخاذ ما يراه على الطبيعة مِن قراراتٍ، ونال الموافقة على ذلك. وفي المساء وافقت الحكومة في اجتماعها على القيام بهجومٍ مضادٍّ ضد المصريين في اليوم التالي، يوم 8 أكتوبر.

تقول جولدا: "كان المصريون قد عبروا القناة، وكانت قواتنا في سيناء قد تحطمت، وكان السوريون قد تغلغلوا في عمق مرتفعات الجولان، وكانت الخسائر على كلا الجانبين مرتفعة للغاية".

وكان السؤال: هل يتم تبليغ الأمة بمدى هذا السوء؟

تقول جولدا: "كان مِن الضروري إعلان أي بيانٍ على الفور، وهكذا تحدثتُ في أول أيام الحرب إلى مواطني إسرائيل. وكانت واحدة مِن أشق المهام في حياتي؛ لأنني كنتُ أعلم أنني لا يجب أن أقول كل الحقيقة. وتحدثتُ إلى شعب ليس لديه أدنى فكرة عن الضريبة الرهيبة التي ندفعها في الشمال وفي الجنوب، أو عن الخطر الذي تواجهه إسرائيل إلى أن تتم تعبئة الاحتياطي ويدفعون إلى المعركة، فقلتُ: إنه ليس هناك شك في أننا سوف ننتصر، وأننا فعلنا كل ما يجب مِن أجل منع اندلاع الحرب، لكن الهجوم المصري السوري قد بدأ".

دايان يبدي استعداده للاستقالة:

وتذكر جولدا أن دايان أبلغها في هذا اليوم بأنه على استعداد للاستقالة مِن منصب وزارة الدفاع إن أرادتْ، ولكنها أبقته في منصبه.

وقد تم بعدها إرسال بارليف إلى الشمال لتقييم الموقف، وبدأ الحديث حول الحصول على المعونة العسكرية مِن أمريكا خاصة مع إمكانية أن تكون الحرب طويلة.

وفي يوم 10 أكتوبر تم دفع السوريين للعودة إلى خطوط عام 1967م، بينما سكن الوضع نسبيًّا في الجنوب، وبدأ التفكير في محاولة عبور جنود إسرائيليين للقناة.

جولدا تستغيث بأمريكا... وأمريكا تنقذ إسرائيل:

تذكر جولدا أنه مع مسيس الحاجة للسلاح كان تكرار طلب السلاح مِن أمريكا والاستياء مِن تأخيره، حتى إنها اتصلتْ ذات مرة بسفيرها في واشنطن في الثالثة صباحًا، وسألته: لماذا لم يبدأ الجسر الجوي بعد؟ وأخبرها عدم إمكان التحدث مع أحدٍ مِن المسؤولين الأمريكيين في هذا الوقت المبكر للغاية، فصرختْ فيه بغضب: "لا يهمني ما هي الساعة الآن، اطلب كيسنجر حالًا، في وسط الليل، نحن في حاجةٍ إلى النجدة بسرعة اليوم؛ لأنها قد تكون متأخرة جدًّا غدًا".

وتضيف جولدا: "وكانت كل ساعة مِن ساعات الانتظار تنقضي وكأنها قرن بالنسبة لي، ولم يكن أمامنا خيار إلا أن نصمد آملين أن تحمل إلينا الساعة المقبلة أخبارًا أفضل. وأبلغتُ دنيتز -سفيرها في واشنطن- تليفونيًّا أنني على استعداد للسفر إلى واشنطن سرًّا لمقابلة نيكسون إذا كان بوسعه ترتيب ذلك، وقلتُ له: أبلغني حالًا فأنا أريد السفر بأسرع ما يمكن".

ثم تضيف: "لكن ذلك لم يكن ضروريًّا فقد أمر نيكسون بنفسه أخيرًا بإرسال الطائرات الجبارة جالاكسي، ووصلتْ أولى رحلاتها في اليوم التاسع مِن الحرب 14 أكتوبر".

وتضيف: "إن هذا الجسر الجوي لا يمكن تقدير قيمته! إنه لم يرفع فقط مِن روحنا المعنوية، وإنما ساهم في توضيح الموقف الأمريكي أمام الاتحاد السوفيتي، وساعدنا مِن الناحية العسكرية، وبكيتُ لأول مرة منذ بداية الحرب عندما علمتُ أن الطائرات قد حطتْ -أي وصلتْ- بمطار اللد".

أيام كلها قلق!

تقول جولدا: "وعاد بارليف مِن الشمال فأرسلناه إلى الجنوب لكي يقضي على الفوضى التي نشأت هناك نظرًا للاختلافات الحرجة بيْن آراء الجنرالات على الطبيعة حول التكتيكات التي يجب استعمالها، وطلب إليه أن يبقى هناك طالما كان ذلك لازمًا. واتصل بي تليفونيًّا مِن سيناء يوم الأربعاء -تعني يوم 10 أكتوبر-،  وما إن قال لي بأسلوبه البطيء في الحديث (ج. و. ل. د. ا) علمتُ أن الأمور تسير سيرًا حسنًا، رغم أن معارك دموية أخرى حدثتْ بعد ذلك وراحت ضحيتها مئات الأرواح مِن الصغار والكبار أيضًا، ولعل ذلك هو ما جعل الناس بعدئذٍ يقترحون تسميتها لا بحرب يوم كيبور، وإنما حرب الآباء والأبناء الذين حاربوا بالفعل غالبًا جنبًا إلى جنبٍ، وقضيتُ عدة أيام والعذاب يمزقني خوفًا مِن أن تنفتح علينا جبهة ثالثة، وتنضم الأردن إلى الهجوم علينا، لكنه بدا واضحًا أن الملك حسين تعلم مِن درس الأيام الستة"، تعني هزيمته في حرب 1967م.

البدء في ثغرة الدفرسوار:

تقول جولدا: "وفي يوم 15 أكتوبر بدأت القوات الإسرائيلية في عبور قناة السويس مِن أجل إقامة رأس جسر على الجانب الآخر، وقضيت تلك الليلة في مكتبي وأنا أظن أنها لن تنتهي".

وتقول: "انقضى الليل في عذابٍ وتوترٍ، واستطاع المظليون العبور، أما المشاة والمدفعية والدبابات فقد تعطل نتيجة لقتالٍ وحشيٍ واجهناه. وتحدثتُ في اليوم التالي أمام الكنيست، ورغم شعوري بالتعب فقد تحدثت لمدة أربعين دقيقة؛ إذ كان لدي الكثير لأقوله. كذلك أردتُ أن أعلن على الملأ مدى امتناننا للرئيس والشعب الأمريكي، ومدى غضبنا مِن تلك الحكومات -وخاصة الفرنسية والبريطانية- التي اختارتْ فرض حظر على شحنات الأسلحة أثناء القتال دفاعًا عن أرواحنا".

معاناة الشعب الإسرائيلي:

تقول جولدا: "عدتُ إلى مكتبي لكي أواجه واحدًا مِن أقسى واجباتي، وهو مقابلة الآباء الذين فقدوا أبناءهم في القتال، ولعل واحدًا مِن أفظع الجوانب في حرب كيبور أننا بقينا لعدة أيام غير قادرين على تحديد مصير الجنود الذين فشلوا في الاتصال بعائلاتهم منذ بدء القتال".

وتقول: "ومرت أيام في الشتاء لم أكن فيها أقدر على الوقوف أمام جماعة أخرى مِن الأهالي، لعلمي أنني لا أملك شيئًا أقوله لهم، إذ كان المصريون والسوريون قد رفضوا تسليم الصليب الأحمر قوائم بالأسرى بعد نهاية الحرب بعدة أشهر أو حتى السماح لحاخامات الجيش بتفتيش أرض المعركة بحثًا عن الموتى".

وتقول: "وأخيرًا: وبعد وقف إطلاق النار، وبعد شهور مِن المفاوضات التي انتهت بالفصل بيْن القوات على الجبهتين عاد أسرانا مِن مصر وسوريا".

وتذكر "جولدا" أنه في 19 أكتوبر جاء كوسيجن -رئيس الخارجية الروسي- إلى القاهرة في زيارةٍ عاجلةٍ مِن أجل وقف إطلاق النار، وتذكر أن مطلبها كان أن يقبل العرب التفاوض مع إسرائيل، وأنها أقسمت في صمتٍ أنه على قدر تعلق الأمر بها فإن هذه الحرب لابد أن تنتهي بمعاهدة سلام، وأن تبذل كل ما في وسعها لتحقيق السلام مع العرب عن طريق المفاوضات.

قبول وقف إطلاق النار:

تقول جولدا: "وأدليتُ ببيانٍ أمام الكنيست يوم 23 أكتوبر عن وقف إطلاق النار، وحاولتُ أن أقنع شعب إسرائيل بأننا لم نقبله لضعفٍ عسكري، وأننا لم نطلبه، وقلتُ: إنه إذا لم يلتزم المصريون به، فلن نقف ساكتين، وكان متوقعًا أن يتحسن موقفنا على الجبهتين عما كان عليه عندما بدأت الحرب".

عودة الأسرى وجثث القتلى:

تقول جولدا: "وعاد أسرانا مِن مصر سواء الذين أُسروا في حرب الاستنزاف أو في حرب يوم كيبور. وقد بكى بعضهم كالأطفال عندما تقابلنا، وقد أحضروا معهم العديد مِن الهدايا، ولكن بقينا نجهل كل شيء عن أسرى الحرب في سوريا، وفي كل يوم تقريبًا كانت هناك جنازات عسكرية للذين قُتلوا في سيناء ثم عثر على جثثهم المتفحمة مؤخرًا وتم التعرف عليهم".

وتبيِّن جولدا في موضع آخر موقف دايان مِن تلك الجنازات فتقول: "شاهدته وهو يعود ممزقًا مِن تلك الجنازات المؤلمة بعد الحرب، عندما كانت النساء يدفعن الأطفال في وجهه صارخات: (أنت قتلتَ أباهم)، وكان النائحون يلوحون بقبضاتهم في وجهه، وهم يصفونه بأنه مجرم".

مطالبة الشعب للحكومة بالاستقالة:

وتقول: "وانطلقت الصيحات مِن كل قطاعات الشعب تطالب الحكومة بالاستقالة، والاتهامات بأن حالة الاستعداد الضعيفة لدى الجيش كانت نتيجة لأخطاء القيادة والإهمال، وانعدام الاتصال بيْن الحكومة والشعب. وقامت عدة حركات احتجاج، اختلفتْ في برامجها ومنطلقاتها، لكنها كانت تشترك في مطلبٍ واحدٍ هو التغيير".

وتضيف: "وكنتُ أختلف مع الكثير مما قالوه عن الماضي، لكن بعض ما قالوه كان صحيحًا... ".

وتقول: "ولقد كان السخط حقيقيًّا، وكان معظمه تعبيرًا طبيعيًّا عن الغضب إزاء السلسلة القاتلة مِن الأخطاء التي وقعتْ، ولم تكن استقالتي أو استقالة دايان هي المطلوبة في هذه العاصفة مِن الاحتجاج، لقد كان المطلوب أن يزال مِن على المسرح كل مَن كان مسئولًا عما حدث، وأن نبدأ مِن جديدٍ بأناسٍ جدد، أناس أصغر سنًّا، لم يوصموا بتهمة تضليل الأمة في مسيرتها".

تقول جولدا: "وجاء دايان بعد ذلك إلى مكتبي، وسألني مرة ثانية: هل تريدين مني أن أستقيل؟ إنني على استعداد لأن أفعل ذلك. ومرة ثانية قلتُ له: لا... فقد كنت أعلم أن تشكيل لجنة تحقيق رسمية أصبح وشيكًا، وهي اللجنة التي شكلت في 18 نوفمبر تحت رئاسة رئيس المحكمة العليا، وعلى هذا فإلى أن تنهي عملها وترفع نتائجها، فإن مبدأ مسؤولية الحكومة الجماعية يظل قائمًا، وتظل نفس أهمية المسؤولية الوزارية".

وتضيف: "ورغم أن الاستقالة كانت تراودني، فقد وجدتُ أن مِن الأفضل أن أبقى وقتًا قليلا، وكذلك دايان".

إدانة القادة العسكريين رسميًّا:

وتعلق جولدا على تقرير لجنة التحقيقات الأول الذي في نشر في 3 أبريل 1974م فتقول: "وقد برأ هذا التقرير دايان مِن أي (مسئولية مباشرة) عن عدم استعداد إسرائيل في يوم كيبور، لكن التقرير عامل رئيس الأركان ورئيس المخابرات بقسوةٍ إلى حدِّ أن (دادو) -تعني رئيس الأركان- استقال على الفور".

وتقول جولدا عن دايان: "ولقد قرأ التقرير المبدئي والجزئي (فقط) في مكتبي، ثم سألني للمرة الثالثة عما إذا كان عليه أن يستقيل؟ فقلتُ له: في هذه المرة يجب أن يكون القرار للحزب... ". تعني حزب العمل الذي شكَّل الحكومة الإسرائيلية التي كانت ترأسها وقتها.

وقد استقال "دايان" بعدها، واعتزل العمل في المؤسسة العسكرية تمامًا.