أمروها كما جاءت!

  • 191

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

ففي الحقيقة أن هذه العبارة ترددت في الآونة الأخيرة كثيرًا على ألسنة مَن يتكلمون في صفات الله مِن المتكلمين، الذين يزعمون أن مذهب السلف الصالح كان لا يتعدى إمرار هذه الكلمات مجهولة المعنى مجهولة الكيفية دون أن يتعرضوا لمعاني هذه الآيات بالشرح والإيضاح، ويزعمون أن هذا المنهج هو المنهج "الأسلم!"، وهو يسمَّى بـ"منهج التفويض".

وهناك كلام للسَّلف يدلُّ على أنَّهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسولِه مِن الصِّفات؛ كما نُقل عن الأوزاعي -وغيرِه-؛ نُقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصِّفات وأحاديثِها: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ".

وهذا يدلُّ على أنهم يُثبِتون لها معنىً مِن وجهَين:

أولًا: أنهم قالوا: "أمِرُّوها كما جاءت"، ومعلومٌ أنها ألفاظٌ جاءت لمعانٍ، ولم تأتِ عبثًا.

فإذا أمررناها كما جاءت؛ لزِمَ من ذلك أن نُثبتَ لها معنًى.

ثانيًا: قولُهم: "بلا كيفٍ"؛ لأن نفيَ الكيفيَّة يدل على وجودِ أصل المعنى، لأنَّ نفي الكيفيَّة عن الشَّيء لا يوجدُ لغوٌ وعبث. إذن: فهذا الكلامُ المشهورُ عند السَّلف يدلُّ على أنهم يُثبِتونَ لهذه النُّصوص معنى. (شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين).

فمعنى العبارة إذن: أمروها كما جاءت دالة على معانيها مِن غير كيفٍ، وليس المراد تفويض المعنى والكيفية كما يزعم المتكلمة.

قال أبو عيسى الترمذي في جامعه لما ذكر حديث أبي هريرة مرفوعًا: (لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ) (رواه الترمذي، وضعفه الألباني): "معناه لهبط على علم اللّه. قال: وعلم اللّه وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه".

وقال في حديث أبي هريرة: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره): "قال غيرُ واحد مِن أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه مِن الصفات، ونزول الرب -تبارك وتعالى- إلى سماء الدنيا. قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم، ولا نقول: كيف؟ هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمّروها بلا كيف. قال: وهذا قول أهل العلم من أهل السُّنة والجماعة".

وعن الربيع قال: "حضرتُ الشافعي وقد جاءته رقعة مِن الصعيد فيها: ما تقول في قول الله: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15)؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء السخط كان هذا دليلًا عن أنهم يرونه في الرضا. قال الربيع: قلت: يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم وبه أدين الله لو لم يؤمن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله".

وعن عبد الله بن المبارك قال: "ما حجب الله عنه أحدًا إلا عذبه، ثم قرأ: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ . ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المطففين:15-17)، قال: بالرؤية".

وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب "الإبانة" له: "وأئمتنا رحمهم الله: كسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن الله -سبحانه وتعالى- بذاته فوق عرشه وأن علمه في كل مكان، وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء، فمَن خالف شيئًا مِن ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برآء" (تلبيس الجهمية، ص 417).

ولو ذهبنا نستقصي النقل عن السلف في توضيح معنى هذه العبارة لطال المقام بنا جدًّا، ولكن هذه إشارات، ومَن أراد أن يبحث ويستقصي، فكتب أهل العلم مليئة بما فيه بيان وشفاء لما في الصدور.

الخلاصة: مما سبق يتبيَّن أنه مِن التجني نسبة السلف إلى الجهل بالمعاني وهم أعلم الناس بها، وإنما نسبهم القوم إلى التفويض -وهو نوع مِن التعطيل- لكي يجدوا مستندًا لهذه البدع.