فضح الموت الدنيا!

  • 510

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكر الله تعالى الموت بأنه مصيبة، فقال: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة:106)، والموت لا يمكن لأحدٍ الفرار منه، كما قال -تعالى-: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء:78)، وإنما هي آجال مضروبة كما قال -تعالى-: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل:61).

وقد سمى الله -تعالى- الحياة الدنيا أنها متاع الغرور فقال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185)، وسمى الشيطان أو كل ما يخدع غَرورًا، فقال: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان:33).

قال ابن جرير: "يقول: ولا يخدعنَّكم بالله خادع. والغَرور بفتح الغين: هو ما غرّ الإنسان مِن شيءٍ كائنًا ما كان؛ شيطانًا كان أو إنسانًا، أو دنيا"، ثم ساق الأسانيد عن مجاهد وقتادة والضحاك، وهم مِن أئمة المفسرين مِن السلف: أنه الشيطان" (تفسير الطبري 20/ 158).

فالدنيا تغر، والشيطان يغر، ثم يأتي الموت فجأة، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نكثر من ذكر الموت، فقد جاء عنه أنه قال: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).

وعن ابن عمر قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ" (رواه البخاري). وقال علي بن أبي طالب: "ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ" (رواه البخاري تعيقًا).

ومِن مأثور كلام السلف: ما روي عن الحسن البصري قال: "فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها فرحًا!" (الهم والحزن لأبي بكر القرشي، 1/69 - ث92، وهو في حلية الأولياء 2/ 149)، وعن الحسن قال: "ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك" (السير 4/ 585).

وعن مسعر قال: "كم مِن مستقبل يومًا وليس يستكمله، ومنتظر غدًا وليس مِن أجله".

ويروى عن عيسى ابن مريم أنه قال: "كما تنامون كذلك تموتون، وكما تستيقظون كذلك تبعثون".

وقال بعض الحكماء: "إن للباقي بالماضي معتبرًا، وللآخر بالأول مزدجرًا، والسعيد لا يركن إلى الخدع، ولا يغتر بالطمع".

وقال بعض الصلحاء: "إن بقاءك إلى فناء، وفناءك إلى بقاء، فخذ مِن فنائك الذي لا يبقى؛ لبقائك الذي لا يفنى".

وقال بعض العلماء: "أي عيش يطيب، وليس للموت طبيب!".

وقال بعض البلغاء: "كل امرئ يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله، وتنطوي عليها صحيفة عمله، فخذ مِن نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك قبل أن تستوفي مدة الأجل، وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل".

وقيل في منثور الحكم: "مَن لم يتعرض للنوائب تعرضت له".

وقال بعض الحكماء: "الطبيب معذور، إذا لم يقدر على دفع المحذور".

وقال الحسن البصري: "أمس أجل، واليوم عمل، وغدًا أمل".

وقال عبد الحميد: "المرء أسير عمر يسير" (أدب الدنيا والدين 1/ 149)، وعن علي قال: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".

ونظم هذا المعنى الحافظ أبو الفضل العراقي فقال:

وإنـمـا الـناس نـيام مَن يـمـت           منهم أزال الموت عنه وسـنه

لقد كنا بالأمس في جنازة زوج عالم جليل، وهي امرأة مشهود لها بالصلاح، فاجتمع جمع مِن أهل الخير للصلاة عليها، وبقي جماعة لم تحضر، وذكروا أنهم في الطريق، فهمَّ بعض الإخوان بالوصاية بتأجيل الصلاة قليلًا حتى يدرك أولئك، لكنهم نُصحوا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: (أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ) (متفق عليه)، ولخوف دخول وقت النهي، وقد جاء عن عقبة بن عامر قوله: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ" (رواه مسلم)، وثمة مندوحة لمَن تأخر عن الصلاة، أن يصلي على القبر، فقد ثبت: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا" (متفق عليه).

ثم دخل الشيخ الجليل، فتقدم وصلى على زوجه، فعلم الحاضرون فضل علمه بالشريعة.

ثم في المقبرة، سألتُ صاحبًا لي كان معي: "أين مِن هذه القبور قبري وقبرك؟!"، فسكت وانطلقنا، فقد فضح الموت الدنيا!

وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.