معالم في السلفية (3) نشأة المصطلح

  • 230

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد موت الإمام أحمد -رحمه الله- ظلت المعركة بيْن أهل الحديث -الذين تمسكوا بالنقل وفهم الصحابة- وبيْن المعتزلة -الذين اعتمدوا على العقل واستبعدوا النقل فانحرفوا عن الصراط المستقيم والفهم القويم وانحرفوا عن عقيدة المسلمين النقية الصافية- مستمرة، حتى ظهر بعد ذلك "أبو الحسن الأشعري" -رحمه الله- متصديًّا للمعتزلة مستخدمًا في ذلك المنهج الكلامي نفسه للدفاع عن عقائد أهل السُّنة والجماعة، وتابعه على هذه الطريقة آخرون شكلوا بعد ذلك المذهب الأشعري، وكان للمنهج الكلامي أثره في الانحراف عن طريقة الصحابة والتابعين وقد برروا ذلك الانحراف بأن أطلقوا على أنفسهم لقب "الخلف" ، وقالوا: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، وقالوا: نحن الخلف ننصر عقائد السلف بمنهج  المتكلمين!

- وقد انبرى لهم (أهل السُّنة والجماعة)، (أهل الحديث)، (أهل الأثر)، (الحنابلة) متمسكين بمنهج الاستدلال بالكتاب والسُّنة في إثبات العقائد، رافضين لاستخدام الأشاعرة لمنهج المتكلمين في الدفاع عنها؛ لأن هذا في الحقيقة إثبات لمنهج المعتزلة في استخدام علم الكلام في العقائد؛ بالإضافة إلى ما حدث أيضًا مِن بعض الانحرافات العقدية عند الأشاعرة أنفسهم مِن استخدامهم لمنهج المتكلمين  في إثبات العقائد  مثل ما حدث من مخالفاتٍ في أمورٍ، منها: "عدم إثباتهم لكثيرٍ مِن الصفات الثابتة للرب -سبحانه وتعالى- والعمل على تأويلها أو إرجاعها إلى الصفات السبعة الأزلية المتفقون علي إثباتها، على خلاف عندهم في عدد الصفات المثبتة بعد هذه السبعة في مسائل الأسماء والصفات - نظرية الكسب في مسائل القدر - تبني مذهب الإرجاء في مسائل الإيمان - القول بأن القرآن كلام الله نفسي- إلخ)، فصار اسم (الخلف) يقابل اسم (السلف)، وصار مَن سار على عقيدة السلف ومنهج استدلالهم (سلفي).

- وعلى هذا؛ فهذا التقسيم وهذا المصطلح أملاه واقع الأمة مِن عدة قرون، وهو في الحقيقة مِن صنع الخلف -قبْل أن يكون مِن صنع السلفيين أنفسهم- لما قالوا: "طريقة الخلف أحكم وأعلم، وطريقة السف أسلم"، فكان قائل أهل السلف يرد ويقول: "طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم"، ويقول:

كل خير في اتـباع مَن سـلـف                        وكل الشر في اتباع مَن خلف

هذا وبناءً على هذا السرد التاريخي لنشأة مصطلح السلفية؛ فهناك حقائق لابد مِن التأكيد عليها:

- السلفية ليستْ مذهبًا كتلك المذاهب الفقهية كما يحاول البعض وسّمها بذلك، وحصرها في مذهب الحنابلة - بحجة تسمية المنتسب إليها في فترةٍ مِن فترات التاريخ بالحنبلي- وذلك حتى يسهل عليه ترويج مخالفتها ونقضها بحجة أنها مذهب مِن ضمن المذاهب.

- وهي أيضًا ليستْ بديلًا عن اسم (أهل السُّنة والجماعة)، بل هي اسم مرادف له مميز لتلك لفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها على ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مِن الفهم للكتاب والسُّنة، والاستدلال بهما والعمل بمقتضاهما.

- وما تعددت الأسماء: (أهل السنة والجماعة - أهل الحديث - أهل الأثر - السني - الحنبلي - السلفي)؛ إلا لغلبة كل اسم منها على هذه الفرقة في فترةٍ مِن الفترات بحسب ظروف هذه الفترة، وما بينها مِن تطورات فكرية شهدها المسلمون.

ثالثًا: التسمية ليس معناها التعصب للاسم، بل كل مسلم يشهد الشهادتين ويعمل حسب استطاعته بمقتضاهما يجب أن يُحب ويُعان على طاعته، ويُوالى على حبه لله ورسوله، ولا ينصر السلفي إن كان مبطلًا ولو كان عدوه كافرًا، ولا يُوالَى السلفي في الظلم (هذا هو معتقد السلفي المنتسب حقًّا لهذا المسمَّى)، فالموالاة تكون لكل مسلم حسب دينه واعتقاده وإيمانه، وحسب قربه وبُعده مما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وليس على مجرد الاسم الذي قد يدعيه أي أحد.  

فالسلفية كما أوضحنا: تقوم على التمسك بالكتاب والسُّنة وفق فهم الصحابة -رضي الله عنهم- ومَن أخذ عنهم مِن التابعين، وتابعي التابعين، ومَن تابعهم بإحسان.

والسلفي: هو مَن يقدِّم فهم الصحابة على كل فهم آخر للكتاب والسُّنة -خاصة في أبواب الاعتقاد-، ويلتزم بما أجمعوا عليه ولا يخرج عن أقوالهم فيما اختلفوا فيه، ويلتزم بهذا الفهم اعتقادًا وعملًا ودعوةً إليه في أي زمانٍ أو مكانٍ.

وهنا يأتي دائمًا السؤال المكرر مِن المناوئين: أليس الصحابة رجال لهم عقول كعقولنا، بل قد جاء الكثير مِن بعدهم يوصفون بالذكاء ورجاحة العقل في التاريخ الإسلامي؛ فلماذا التمسك بفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- دون غيرهم؟!

والإجابة على ذلك مهمة ويسيرة -بإذن الله- على مَن تأمل، وصدق في بحثه عن الحق.

وهي مِن عدة وجوه:

1- الصحابة -رضوان الله عليهم- هم أعلم الأمة بكتاب الله -تعالى-، ومراد الله -تعالى- في كتابه، فعليهم نزل القرآن غضًّا طريًّا، يوضح لهم الصواب مِن أفعالهم في أثناء وقوعها، ويعالج مشاكلهم الواقعة في حياتهم، وهم مَن استمعوا إلى بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أشكل عليهم فهمه مِن مراد الله -تعالى- في كتابه، كما أنهم هم أعلم الأمة بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهم حفظة أقواله ومشاهدو التطبيق العملي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في أعماله وتوجيهاته التي أمر بها -صلى الله عليه وسلم-.

2- الصحابة هم هذه الفئة المباركة الوحيدة التي زكاها الله -عز وجل- وزكى إيمانها وفهمها، وأمر باتباع طريقتها لتحقيق الهداية والفلاح، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74)، وقال -تعالى- مخاطبًا الصحابة -رضوان الله عليهم-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة:137).

3- الصحابة هم مَن زكاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمرنا باتباع طريقتهم عند الاختلاف في فهم الأمور، قال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

فهذا توجيه صريح مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة جمعاء أن تلتزم بفهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عند وقوع الاختلاف، بل جاء الأمر بالتمسك الشديد بذلك مشبهًا الأمر في شدة التمسك به بالعض على النواجذ.

4- أن هؤلاء الصحب الكرام هم صمام أمان هذه الأمة، فكان انقضاء جيلهم بداية لظهور البدع والفتن، كما أن ترك طريقة فهمهم للكتاب والسنة سبب في وقوع الفتن والمحن.

والدليل على ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) (رواه مسلم).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.