تحذير العباد مِن مخالفة الحق بالعناد

  • 383

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن أصل دين الإسلام الذي ارتضاه الله -تعالى- لعباده المؤمنين: الاستسلام والانقياد.

وحقيقة الاستسلام: تعظيم أمر الله ـسبحانهـ ونهيه، فكل ما أمر به الشارع أو نهى عنه، فحقه التعظيم والامتثال، قال -تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور:51).

ولذلك فإن مِن أكبر موانع العمل بشريعة الإسلام بعد العلم بها: العناد والاستكبار النابع مِن تعطيل العقول والأسماع والأبصار عن فهم ما جاء عن الله ورسوله، فحواس بعض الناس وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم، يسمعون ولا يعقلون، وينظرون ولا يميزون، فهي معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).

يقول ابن منظور: "العناد والمعاندة: أن يعرف الرّجل الشّيء فيأباه ويميل عنه. ويقال: عاند معاندة أي: خالف وردّ الحقّ وهو يعرفه فهو عنيد. والعنيد: الجائر عن القصد، الباغي الّذي يردّ الحقّ مع العلم به".

فأهل العناد أصحاب الظلمات، المنغمسون في الجهالات، أحاطت بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل أضل سبيلًا، فهم في ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم، وظلمة الشك، وظلمة الإعراض عن الحق؛ فأقوالهم ظلمة، وأعمالهم ظلمة، فهم يتقلبون في الظلمات: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40)، وقال -تعالى-: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (إبراهيم:51-17).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وقال قتادة: "إيّاكم والإصرار، فإنّما هلك المصرّون الماضون قدمًا، لا ينهاهم مخافة اللّه عن حرام حرّمه اللّه عليهم، ولا يتوبون مِن ذنب أصابوه؛ حتّى أتاهم الموت وهم على ذلك".

فكم رد إنسانٌ الحق بعد أن علمه كبرًا وعنادًا؛ فضل! وكم مَن يحمله محض العناد على الخصومة لقهر خصمه والانتصار عليه -زعمًاـ فيرد الحق؛ فيضل، وهذا شأن كثير ممَن أضله الله قديمًا وحديثًا، وقد صرَّح أهل العلم بأن ترك العناد شرطٌ في الإيمان.

لما جاء موسى وهارون إلى فرعون وملئه، وعرضا عليهم ما آتاهما الله من المعجزات الباهرات، التي تدل على صدقهما، لم يجد فرعون ومَن معه ما يردون به براهين الله وحججه، فعدلوا إلى العناد؛ استكبارًا منهم عن اتباع الحق!

وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللهِ، أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ، إِذْ لَقِينَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَلُمَّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِلَى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا؟ هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ؟! فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فو الله لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ ما تقول حقّا مَا اتَّبَعْتُكَ! فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ. وَأَقْبَلَ عَلَيَّ -أي: أبو جهل- فَقَالَ: فو الله إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنَّ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ. فَقَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ. ثُمَّ قَالُوا: فِينَا اللِّوَاءُ، فَقُلْنَا نَعَمْ. قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا نَعَم.، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، والله لا أفعل!" (أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، وصححه الألباني). ما منعه إلا العناد والاستكبار.

فإذا انحرف الناس عن التوحيد والإيمان أغواهم الشيطان، وزين لهم ما انحرفوا إليه؛ فصار وليهم الذي يشرف عليهم ويصرفهم؛ فهم كالصم الذين لا يسمعون، والعُمي الذين لا يبصرون، ولا يستوي الحي الذي أنار الله قلبه بالإيمان، بميت قابع في الظلمات والبهتان!

فثوب الكبرياء يلف عقول البعض، وجبال العناد الراسخة في قلوبهم تأبى أن تلين للانقياد الحق، وموافقة هوى النفس ـالتي هي طاعة الشيطان تمنعهم من ذلك، وقد كان علي -رضي الله عنه-، يشتد خوفه من طول الأمل، واتباع الهوى، وقال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق".

فالقلوب إذا لم يدخلها الإيمان والهدى فهي ميتة مظلمة، فإذا دخل الإيمان في القلوب اهتزت وتحركت بالذكر والعبادة والطاعة لمولاها؛ فاطمأنت بذكره، وأنست بقربه، وتلذذت بعبادته، وأشرقت أرواح المؤمنين بهذا النور وأضاءت، وفاض منها النور تمشي به في الناس، تهدي الضال، وتُطمئن الخائف، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتحقق مراد الله في أرضه وعباده.