تأملات في حجة الوداع (28)

  • 226

حكم المبيت بمِنَى ورمي الجمار أيام التشريق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203).

قال ابن جرير -رَحِمَهُ اللهُ-: "اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذٍ بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة مِن حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً مِن الجمار" (تفسير الطبري، 4/ 208).

ثم رَوى بسَنَده عن ابن عباس في قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) قال: أيام التشريق، وفي رواية: وهي ثلاثة أيام بعد النحر، وعن عطاء ومجاهد وإبراهيم والحسن وإسماعيل بن أبي خالد وقتادة والسُّدِّي وغيرهم مثل ذلك.

فتأمل كيف ذكر الله -سبحانه- في كتابه المبيت بمنى ورمي الجمار بلفظ الذكر، لا المبيت ولا الرمي؛ ليدلنا ذلك على أنه إنما جُعلت هذه الشعائر في ذكر الله بالكيفية التي أمر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وسَنَّ لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وعن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَنَاسِكَ، عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فِي الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونِ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ" (رواه البيهقي والحاكم، وصححه الألباني)، فرَمْي الجمار رمز لرجم الشيطان وإرغامه وإذلاله وتصغيره مع تكبير الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

واستحضار هذه المعاني مِن أعظم ما يحيي القلب في حياة الإنسان كلها، فلا بد أن تُرغِم الشيطان وتُصَغِّره بعد رحلة الحج في حياتك كلها وتُكَبِّر الله في جميع أمورك، وتعلي كلمته على نفسك وأهلك وأولادك وأموالك ومجتمعك وبلدك والخلق جميعًا.

وقد ظهر في المتأخرين إنكار أن رمي الجمار رجم للشيطان؛ ولا وجه له بعد صحة الحديث بذلك، وإن كان الشيطان ليس هو الجمرة بإجماع العلماء، وإنما الشيطان يُرجم برمي الجمرة، ويذل باتباعك لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وامتثال اتباع خليل الله إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وقد شرع الذكر بالتكبير خصوصًا مع رمي كل حَصَاة كما سبق بيانه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يُكَبِّر مع كل حَصَاة، وشُرِع الدعاء الطويل بعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق، روى البخاري عن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أنه كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا -وفي رواية: "التي تلي مسجد مِنى"- بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ [أي: يَقِفُ في مكانٍ سَهْلٍ غير مرتفع]، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى، كَذَلِكَ فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُ"، يرميها مِن بطن الوادي كما رماها مِن جهة الشِّمال؛ فيجعل مَكَّة عن يَسَارِه ومِنى عن يمينه كما ثبت في جمرة العقبة، وقد روى ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر أنه كان يقوم عند الجمرتين بمقدار ما يقرأ سورة البقرة؛ وهذا يمكن للقارئ السريع، بل المتوسط أن يكون أكثر مِن الساعة قليلًا في الجمرتين، فيقف نحو نصف الساعة أو أكثر عند كل جمرة، أمام الأولى وعن يسار الثانية، متضرعًا منكسرًا، شاكرًا نعمة الله عليه في دينه ودنياه، طالبًا حاجته في الدين والدنيا والآخرة.

فهي لحظات إحياء القلوب التي مِن أجلها شرع رمي الجمار والطواف والسعي؛ روى أبو داوود والترمذي وحَسَّنَهُ عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ"؛ فاحذر أن تؤديها غافلًا عنها بلا قلبٍ ذَاكِرٍ وعَقْلٍ واعٍ، أو أن تجهل حكمة الانقياد والطاعة وإرغام العدو.

وأما حكم المبيت بمنى فقد كَثُر في زماننا المنازعات فيه، وقد ثبت في سُنَن أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الرحمن بن يَعمَر الدِّيْلِيِّ قال: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِعَرَفَةَ، فَجَاءَ نَاسٌ أَوْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَأَمَرُوا رَجُلًا فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا فَنَادَى: "الْحَجُّ، الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلًا خَلْفَهُ فَجَعَلَ يُنَادِي بِذَلِكَ"؛ وهذا الحديث بيان للآية الكريمة: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)، وأنها أيام منى، وأنها ثلاثة؛ حادي عشر وثاني عشر وثالث عشر مِن ذي الحجة، وأن التعَجُّل يكون في يومين منها؛ فالحادي عشر والثاني عشر، فلا أقل مِن ذلك.

وأما البِدعة المحدثة في زماننا والفتاوى الباطلة بجواز الانصراف ليلة الحادي عشر بعد منتصف الليل لِرَمْيِ يوم الثاني عشر ثم الانصراف مِن مِنى -بزعم أنه قد دخل اليوم في الثانية عشرة ليلًا- فقولٌ باطلٌ مُخَالِف لنصوص الكتاب والسُنَّة، بل واتفاق مَن سَبَق مِن أنه لا رَمْيَ قبل طلوع الشمس، بل الصواب أنه لا رَمي للجمار في أيام التشريق قبْل الزوال، وهؤلاء لم يبقوا في منى إلا يومًا واحدًا هو الحادي عشر، واليوم عند العرب يبدأ مِن الفجر، ولا قائل بالرمي قبل دخول اليوم؛ فلا شك أن حجهم ناقص، والصواب أن عليهم الدم في تركهم المبيت بمنى مع قدرتهم وتركهم رمي الجمار في موعدها.

قال الشيخ الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَبِيتِ فِي مِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ بَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْهَا أَوْ جُلَّ لَيْلَةٍ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِنًى لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ. [يعني قول ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "مَن تَرَك نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَم"] وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: "زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يُدْخِلُونَ النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ". وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ". اهـ مِنْهُ.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وَرَاءَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ لَيْسَ مِنْ مِنًى، وَهُوَ مَعْرُوفٌ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ أَنَّ عَدَمَ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى مَكْرُوهٌ، وَلَوْ بَاتَ بِغَيْرِ مِنًى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى طَرِيقَتَيْنِ، أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلًا وَاحِدًا؛ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَالدَّمُ وَاجِبٌ فِي تَرْكِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ سَنَةٌ فَالدَّمُ سُنَّةٌ فِي تَرْكِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الدَّمُ إِلَّا فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ فِي اللَّيَالِي كُلِّهَا، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَأَنَّهَا نُسُكٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَرْكِ الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَهُمْ، أَصَحُّهَا: أَنَّ فِي تَرْكِ مَبِيتِ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ دِرْهَمًا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ ثُلُثَ دَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُكْمُ اللَّيْلَتَيْنِ مَعْلُومٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَاجِبٌ؛ فَلَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَعَنْهُ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ، وَعَنْهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيهَا فَفِيهِ مَا فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَا، قِيلَ: مُدٌّ، وَقِيلَ: دِرْهَمٌ، وَقِيلَ، ثُلُثُ دَمٍ" (انتهى كلامه مِن أضواء البيان، 4/ 477).

قلتُ: القول بوجوب مُدٍّ أو بدرهم أو بثلث دم مما لا دليل عليه مِن كتابٍ ولا سُنَّة، وقول ابن عباس: "مَن تَرَك نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَم" قول صحابي اشتهر ولا يُعرف له مُخالِف، كما أنه روي مرفوعًا؛ فهو حُجَّةٌ صَحِيحَة، وعليه عامة أهل العلم، فقول مالك أصح الأقوال في ذلك.

قال الشيخ الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، يَدْخُلُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ؛ فَلْيُهْرِقْ دَمًا".

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاتَ بِهَا اللَّيَالِيَ الْمَذْكُورَةَ، وَقَالَ: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ مَنَاسِكِنَا الْبَيْتُوتَةَ بِمِنًى اللَّيَالِيَ الْمَذْكُورَةَ.

الثَّانِي: هُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ [وهذه رواية البخاري]، وَفِي رِوَايَةٍ: أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ حَدِيثِ التَّرْخِيصِ لِلْعَبَّاسِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالرُّخْصَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُقَابِلَهَا عَزِيمَةٌ، وَأَنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هِيَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ يَحْصُلِ الْإِذْنُ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ سُنَّةٌ؛ وَوُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَبِيتُ إِلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْذِ الْوُجُوبِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ" (أضواء البيان، 4/ 477 - 478).

 وكذلك يؤخذ الوجوب مِن ترخيص النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرُعَاءِ الإبل في ترك المبيت بمنى؛ فهذا الترخيص يدل على أن مَن لم يكن له عذرٌ وَجَبَ عليه أن يبيت معظم الليل بمنى، وهذا يحصل بأكثر مِن نصف الليل ولو بقليل، والله أعلى وأعلم.

ومَن يُطرَد عَن مِنَى -ولا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ- حتى لا يَجد مكانًا بها يبقى فيه أكثر من نصف الليل: فهو مَعذور يسقط عنه الوجوب، وأما مَن كان قادرًا فلا بد له مِن المبيت، والله أعلى وأعلم.