التشجيع وأثره في التربية

  • 173

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتأمل معي هذه المواقف الحاسمة:

الأول: ذكر الإمام البخاري -رحمه الله- مِن أسباب تأليفه لسفره العظيم (صحيح البخاري) أنه كان في حلقة إسحاق بن راهويه -رحمه الله- وأن إسحاق قال محفزًا طلابه لجمع الحديث الصحيح: "لو أن أحدكم يجمع كتابًا فيما صح مِن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-".

جملة قالها إسحاق فوقعتْ في نفس البخاري -رحمه الله- فشمَّر عن ساعد الجد، وواصل الليل بالنهار، وأصبح مشروع حياته؛ فصنف ذلك الكتاب الذي انتشر في الآفاق، وصار أصح كتاب بعد كتاب الله -تعالى-!

الثاني: قال الشافعيُّ: "كنتُ أول أمري مهتمًا بالشعر، فتمثلتُ بيتًا مِن الشعر عند كاتب مصعب الزبيري، فأخذ بيدي، وقال: أوتيتَ حظًا مِن الشعر يا شافعي، فأين أنت مِن الفقه؟ فوقع ذلك في قلبي!".

هذه الكلمة أخذت الشافعيّ مِن طريق الشعر وألقته في طريق الفقه؛ فصار مِن كبار علماء المسلمين، وليس في قول الشعر حُرمة، فالشعر كلام، والأصل في الكلام الإباحة، والشعر كالنثر، حرمته وحله في مضمونه، ولكن لدينا آلاف الشعراء، وليس لدينا إلا شافعي واحد!

كلمة واحدة لم تُغير واقع رجل فقط، وإنما غيرت واقع أمة كاملة! يكفي فيه قول إمام أهل السُّنة -أحمد بن حنبل رحمه الله-: "كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس!".

الثالث: ذكر الإمام الذهبي -إمام زمانه حفظًا، وذهب عصره معنى ولفظًا-: أن سبب طلبه لعلم الحديث كلمة واحدة شحذت همته، وملأت قلبه وعقله، كلمة سمعها مِن معلمه الإمام البرزالي، قال الذهبي: "لما رأى الإمام البِرزالي خطي قال لي مستحسنًا: إن خطك هذا يشبه خط المحدثين. فحبب الله لي علم الحديث".

إشادة رقيقة، جعلت مِن الذهبيّ إمام السُّنة في الجرح والتعديل، فكتب لنا "سير أعلام النبلاء"، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، و"المعين في طبقات المحدثين"، و"ديوان الضعفاء والمتروكين"!

وقد هذبه الحديث وجعله متواضعًا، ولما ترجم للنبلاء وأشاد بهم في سفره العظيم السير، ترجم لنفسه فقال: "الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، يُثني عليه الناس خيرًا وربه أعلم به!".

الرابع: ذُكر عن السلطان أبو الخيرات محمد الفاتح، صاحب البشارة النبوية القائلة: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"، أن معلمه كان يأتي به إلى الشاطئ ويشير إلى القسطنطينية (إسطنبول اليوم)، ويردد البشارة النبوية، وأن ذلك حفَّزه أن يسعى ليكون هو صاحب هذه البشارة.

هذه كلمات حفرت طريقًا لها عبْر تاريخ أمة مجيدة؛ فسطر أصحابها بأحرفٍ مِن نور صفحات مضيئة لا تزال الأجيال تنهل منها.

ولا شك أننا جميعًا لازلنا نذكر ذلك الشخص الذي كان يثق بنا ربما أكثر مِن ثقتنا بأنفسنا "والدًا أو معلمًا أو صديقًا"، فكان لتشجيعه أثر عظيم في مسار حياتنا وما حققناه مِن إنجاز ديني أو دنيوي.

إن النفس البشرية تحتاج إلى التشجيع والتقدير ومنحها الثقة لكي تبدع وتنتج وتنفع، ومسار تطور الأنفس البشرية لابد وأن يمر بهذه المحطات الأساسية.

 

أعلم أن الأنفس تختلف، فليس شرطًا أن يحدث هذا التأثير الإيجابي في كل الأحوال ومع كل الشخصيات، لكنه أمر مطرد في حياة المؤثرين في التاريخ، وقصصهم في ذلك أكثر مِن أن تحصى.

وتأمل هذا الحديث العظيم حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه).

فيا أيها الوالد والمعلم والداعية، ويا أيتها الأم... انتبهوا إلى كلماتكم مع الناشئة، فرب كلمة شقّت لهم طريقًا إلى المجد، وأخرى ألقت بهم على هامش الحياة.