الثبات (3) (موعظة الأسبوع)

  • 185

أسباب التراجع عن الثبات (2)(1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- تكرير التنبيه على أهمية الثبات، والإشارة إلى مشقته على النفوس لا سيما في هذا الزمان.

- التنبيه على ما سبق مِن أن الأسباب على قسمين، داخلية وخارجية مع توضيح المقصود بكل منهما.

- التنبيه على أنه سبق الكلام عن ثلاثة أسباب داخلية، واليوم نستكمل الكلام عن بقية الأسباب الداخلية(2).

(4) الاستعجال:

مرض عضال يجعل المتعجل إن لم تتحقق أهدافه بسرعة يتراجع وييأس ولا يثبت؛ لأنه لا صبر له، فتكون النتيجة انحرافًا منهجيًّا أو سلوكيًّا أو الاثنين معًا(3)؛ فيكون كالمستجير مِن الرمضاء بالنار!

- الجهل بسنن الله الشرعية والكونية مِن أعظم أسباب شيوع هذا المرض: قال الله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)، وعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).

- الزرع لابد له مِن مراحل قبْل الحصاد، والبِنَاء لابد في بنائه مِن قاعدته قبْل قمته، وأنتَ عليك البذر وقد يحصد غيرك، وتؤسِّس قاعدة البناء ويرفعه ويشيده غيرك؛ فطريق التمكين شاق وطويل ولابد مِن الصبر: قيل للشافعي -رحمه الله-: "أيهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أم يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى" (وسيأتي في عوامل الثبات في عامل الصبر كثير مِن التفصيل).

(5) الغلو والتشدد:

مرض فتاك يُذهِب الثبات، لاسيما في أول الطريق؛ لأنه يفضي بصاحبه إلى الانقطاع وعدم المواصلة؛ وذلك لأن النفس مِن طبعها الملل، والإنسان ذو طاقة محدودة، فإن صبرَ أيامًا وشهورًا على التشدد والغلو، فإنه لا يصبر أكثر مِن ذلك. "يحكي أحد الدعاة عن صورٍ كثيرةٍ مِن التراجع عن التزام تعاليم الإسلام، يقول: أحدهم شاب كان يؤذن بصوت جميل حتى إنه كان يبكيني أحيانًا يوم الجمعة أثناء التأذين، فإذ به يتراجع دركة بعد دركة، حتى حلق لحيته وصار يشرب الدخان، وآخر حفظ القرآن وجوَّده، حتى قدمته ليصلي بالناس في صلاة التراويح والقيام، فإذا به يتراجع دركة بعد دركة، حتى ترك القرآن والالتزام، وصار يشاهد المسلسلات والأفلام، وآخر كان لا يخرج مِن المسجد إلا للنوم تقريبًا، ولقد رأيت والده ذات يوم وهو يصرخ في وجهه يأمره بالخروج مِن المسجد بعض الوقت لدراسته الجامعية، وهو يصر على عدم الخروج، وإذا به أيضًا يتراجع دركة دركة حتى حلق لحيته وهجر المساجد، وصاحب الشباب العابثين، وإن كان يحافظ على الصلاة، وآخر كان يقرأ في اليوم عشرة أجزاء مِن القرآن، بل كان في الاعتكاف يختم القرآن في يومٍ واحد، فإذا به يتراجع دركة دركة حتى صار لا يأتي المسجد إلا على فتراتٍ طويلةٍ، وقد هجر القرآن"(4).

- الشرع ينهى عن الغلو بكل درجاته: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداه جمع: (هَلُمَّ الْقُطْ لِي)، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: (نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ) (رواه أحمد والنسائي وابن حبان، وصححه الألباني)، وقال -تعالى- عنهم: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد:27).

- شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- جاءت بالتيسير ورفع الحرج والمشقة: قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...) (الأعراف:157)، وقال -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا... ) (رواه البخاري).

قال ابن المنير -رحمه الله-: "في هذا الحديث علمٌ مِن أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبْلنا أن كل متنطع في الدين منقطع" (فتح الباري).  

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلَاثًا. (رواه مسلم).

- أحوال أعبد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: "الاعتدال والوسطية": (نهيهم عن الوصال في الصيام - لا يقوم الليل كله إلا في العشر الأواخر مِن رمضان - ... )، وقال -صلى الله عليه وسلم- لمَن ظنوا الزيادة على طريقته أحسن: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه)، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الْاِقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ" (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني).

(6) التساهل والترخص:

مرض فتاك يتسرب إلى النفوس غالبًا مِن باب وهم التيسير وترك التشدد، فيتدرج مِن الرخص فيما هو سائغ مِن الخلاف إلى الرخص والزلات فيما هو ليس بسائغٍ مِن الخلاف: (الإسبال - الأخذ مِن اللحية - النمص ونحوه - إلى ما هو مِن جنس المحرمات...)(5).

- التساهل والترخص يؤدي إلى الوقوع في الحرام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ... ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).

- كثرة الترخص وتتبع زلات العلماء شر وزندقة عند السلف: قال سليمان التيمي: "لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ" (سير أعلام النبلاء)، وذكر الذهبي كذلك في السير: "عن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إلى كتابًا نظرت فيه، وكان قد جمع له الرخص مِن زلل العلماء وما احتجّ به كلٌ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن مَن أباح المسكر لم يبح المتعة، ومَن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما مِن عالم إلا وله زلة، ومَن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب" (سير أعلام النبلاء).

(7) الكبر والغرور ورفض الحق:

مرض عضال فتاك يؤدي إلى التراجع وربما الانتكاس؛ لأن المتكبر يَرى نفسه مقدَّمًا في كل شيء؛ ولذلك يرفض التبعية والتوجيه، وينفر مِن كل محفل يظهره مساويًا لغيره، ويزداد أمره سوءًا إذا عوتب أو عوقب(6).

- الكبر عن قبول الحق يؤدي إلى التراجع وريما الانتكاس؛ لأن معايير التفاضل عند المتكبرين فاسدة: قال -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13)، وقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (المجادلة:11).

- أمثلة سيئة: (إبليس - حيي بن أخطب - جبلة بن الأيهم)، (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الأعراف:12)، وقال حيي بن أخطب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعرفه وأثبته، ولكن عداوته في قلبي ما بقيت" (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مِن العرب).

وذكر أصحاب السِّيَر: "أن عمر لما بلغه إسلام جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة. وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه، فأذن له، فركب في خلقٍ كثيرٍ مِن قومه، قيل: مائة وخمسون راكبًا. وقيل: خمسمائة. وتلقته هدايا عمر ونزله قبْل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا، دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس هو تاجًا على رأسه، مرصعًا باللآلئ والجواهر... وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وَطِئَ إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل، ومِن الناس مَن يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري عمر، ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر، فاعترف جبلة فقال له عمر: أقده. فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك. فقال: إذًا أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك. فلما رأى الجد قال: سأنظر في أمري هذه الليلة. فانصرف مِن عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومَن أطاعه، فسار إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادًا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقًا جزيلة" (السير للذهبي - 3/532 - البداية والنهاية حوادث سنة 53).

فاللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التنبيه على أن التراجع درجات "آخرها الانتكاس".

(2) التنبيه على أن الأسباب أكثر مِن ذلك، ولكننا نركِّز على أبرزها؛ لعدم الإطالة.

(3) كل التيارات التكفيرية مصابة بهذا الداء، وأكثر الذين يؤيدون العنف في كل زمان مصابون بهذا، وقد رأينا مِن هؤلاء الكثير ممن حلقوا لحاهم، وتركوا التزام الدين!  

(4) وآخر في باب الجهاد، حيث كان ينكر على مَن يقول الجهاد فرض كفاية، ولما كانت حرب سوريا جعل قضيته الضغط على نفوس كثيرٍ مِن الشباب بأن الجهاد في سوريا فرض عليهم دون نظر في ضوابط وظروف المسألة، فكانت النتيجة الانزلاق إلى براثن الفرق التكفيرية، ثم ترك كل ذلك وانجرف إلى شهوات الدنيا.

(5) مِن التساهل: ما هو حاصل ممَن كانوا أصحاب سمتٍ سلفي، ثم صاروا يلبسون "الكاجوال والبنطلون الضيق"، ويتكلمون العامية المسيئة في مقاطع اليوتيوب! أو مقارفة ما اقترن بالشبهات: كالاختلاط المذموم، وارتياد أماكن اللهو والغفلة، والتوسع في استخدام وسائل الاتصال والإعلام العصرية بلا حاجة (نشرات الأخبار والبرامج التحليلية بإفراط) حتى يصل إلى السقوط في الحرام الصريح.

(6) قال بعض السلف: "لأن أكون ذَنبًا في الحق، خير مِن أن أكون رأسًا في الباطل!".