عِبَر مِن قصص الأنبياء (27)

  • 205

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أ- داود -عليه السلام-:

خصّ الله -عز وجل- بني إسرائيل بأنْ كان كثير مِن الرسل والأنبياء منهم، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ) (متفق عليه).

ومِن أمثلة كثرة الأنبياء في بني إسرائيل: تواجد عدد مِن الأنبياء معًا في نفس الوقت (يعقوب ويوسف - موسى وهارون - داود وسليمان) وغيرهم، كما أن بعض العلماء يصحح خبر مقتل سبعين نبيًّا مِن بني إسرائيل في يومٍ واحدٍ! بل صحح الحاكم والذهبي أثرًا عن ابن عباس أن كل الأنبياء مِن بني إسرائيل إلا عشرة أنبياء!

فبعد موت هارون وموسى -عليهما السلام- ظهر في بني إسرائيل عدد مِن الأنبياء لا نعرف عددهم ولا أسماءهم، كان منهم نبيٌ طلب بنو إسرائيل منه أن يختار لهم ملكًا يقودهم ويقاتلون تحت رايته: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة:246)، فاختار الله لهم طالوت ملكًا (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) (البقرة:247)، فاعترض عليه بنو إسرائيل كعادتهم في مخالفة أوامر الله -عز وجل-! ولم يسمعوا ويطيعوا له إلا بعد مجادلاتٍ طويلة مع نبيهم، وحتى أرسل لهم الله -عز وجل- علامةً وآيةً (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) (البقرة:248).

ورغم ذلك فإن بني إسرائيل لما طلب منهم ملكُهم طالوت التجهز للقتال والإخلاص فيه، والطاعة والامتثال نكص أغلبهم (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) (البقرة:249)، فلم ينجح مِن هؤلاء إلا القلة!

والأعجب أن غالبية القلة نكصت مرة أخرى لما رأت جموع العدو وكثرتهم: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة:249).

ولم يصمد مع طالوت إلا أقلية الأقلية وهم 314 مجاهدًا فقط كعدد أصحاب بدر، كما جاء في حديث البراء بن عازب عند البخاري، وكان في جيش طالوت الصغير مجاهد اسمه داود: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة:250-251).

فداود -عليه السلام- كان جنديًّا مجاهدًا، مخلصًا صادقًا، شجاعًا، في جيش طالوت، فاصطفاه الله -عز وجل- وجعله نبيًّا وملِكًا وخليفة (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص:26).

وقد وصفه الله -عز وجل- بقوله: (دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) (ص:17)، (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص:20)، وفي هذا عبرة وتذكرة بعناصر الخلافة والحكم، والملك الرشيد، وهي: القوة في العلم والعمل، وهذا معنى (الْأَيْدِ)، فقد كان داود عالمًا بالشرع والدنيا، ومجاهدًا في سبيل الله، وصانعًا ماهرًا للدروع (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) (الأنبياء:80)، (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ:10).

فمَن أراد سبيل الأنبياء في إقامة الحكم؛ فعليه بالإخلاص، والطاعة التامة لله -عز وجل-، ومِن ثَمَّ الأخذ بالأسباب العلمية والعملية الصحيحة؛ فعندها يقوى حكمه ويرشد عدله في الناس، وتصلح سياسته لأمور الدنيا، فيسعد ويسعدون، ويكون له الثواب الجزيل عند الله في الآخرة.