لماذا نعظِّم صحيح البخاري؟!

  • 203

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلم يزل المسلمون على مرِّ الدهور يعظِّمون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كيف لا وقد أمرهم الله -تعالى- باتباعه، فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، وجعل طاعته طاعة لله فقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء:80)، وحذرهم مِن مخالفة أمره فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)؟!

وكان صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعون منه الحديث والحكمة، فينتفعون بها، ثم يبلغونها مَن بعدهم؛ امتثالًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ولم يزل الحديث ينتقل مِن الأفواه الطيبة مِن السلف إلى الخلف عبر الثقات العدول؛ نبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

وفي عصر التدوين الواسع للسُّنة: انتهج العلماء مذاهب شتى في التصنيف، وظهر المحدثون أصحاب الكتب الستة، وكان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ممَن رأى أن يجمع مختصرًا لصحيح السُّنة استجابة لمقترح شيخه الإمام المحدث الكبير إسحاق بن راهويه، حيث قال في مجلس له لتلاميذه: "لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، قال الإمام البخاري: "فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح"، وأسماه: "الجامع الصحيح المختصر".

وكانت طريقة البخاري دقيقة جدًّا في جمع السنن التي أرادها في هذا الكتاب، حتى إنه قال: "ما كتبتُ في كتابي الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين!".

وقال: "صنفتُ كتابي هذا في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله -تعالى- وصليت ركعتين، وتيقنتُ صحته".

وقال: "أخرجته مِن نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله -تعالى-".

وقال: "ما أدخلت فيه إلا صحيحًا، وما تركت مِن الصحيح أكثر حتى لا يطول".

وقد وقع هذا الكتاب موقع القبول في الأمة؛ فاتفق العلماء -رحمهم الله- على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز: "الصحيحان: البخاري ومسلم"؛ نقل هذا النووي وابن حجر والعيني والسيوطي، وغيرهم كثير جدًّا، بل قال محدث العصر الألباني: "والصحيحان: هما أصح الكتب بعد كتاب الله -تعالى- باتفاق علماء المسلمين مِن المحدثين وغيرهم، فقد امتازا على غيرهما مِن كتب السُّنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة، وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة، على قواعدَ متينةٍ وشروطٍ دقيقةٍ، وقد وفقوا في ذلك توفيقًا بالغًا لم يوفق إليه مَن بعدهم ممَن نحا نحوهم في جمع الصحيح: كابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، حتى صار عرفًا عامًّا أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة، ودخل في طريق الصحة والسلامة. ولا ريب في ذلك، وأنه هو الأصل عندنا" (مِن مقدمة تحقيق الألباني لشرح الطحاوية).

وهذا كلام يدل على منزلة الصحيحين، وليس يُلتفت بعد ذلك لقول مَن يطعن في الصحيحين أو أحدهما، علمًا أن الطاعن فيهما إما يكون منكرًا للسُّنة كلها، وهو بالزندقة أشبه، أو يكون جاهلًا بما يقول، سمع انتقادات بعض الأحرف اليسيرة على الصحيح، ففهم منها ضعفًا عامًّا، وعامة ما يورده هؤلاء مِن شُبه هي معروفة عند أهل العلم وأجابوا عنها؛ إلا أننا في زمانٍ قلَّ فيه العلم، وكثر الجهل، فيأتي مغرض يتكلم في البخاري أنه فيه وفيه... ! ويذكر شبهات ينقلها مِن شُبه الزنادقة الهالكين، ولا ينقل رد أهل العلم عليهم، إما جهلًا منه، أو لهوى في نفسه، فتروج على الطغام والسوقة، وقد اطلعت منذ أكثر من ثلاثين سنة على كتابٍ لأحد هؤلاء طُبع في مدينة (كوايابا) بالبرازيل، وضع فيه مؤلفه نحوًا مِن (700 حديث) لا يستسيغها عقله، وكلها في البخاري، ورغم أني كنت حدثًا في طلب العلم، إلا أني لم أجد فيها كلها ما يمكن لأن يرقى إلى أن يكون شبهة، -والحمد لله-، فهو مثلًا يأتي برواية مسابقة النبي لعائشة -رضي الله عنها- ويستنكر أن يقع مثل هذا! وينكر أشباه ذلك مِن الأحاديث مما أملاه عليه عقله السقيم، وقديمًا قال قوم لوط: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56)، وإنما هذا شأن أهل الأهواء في كل زمان، توسلًا إلى ردِّ النبوات، (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات:52-53).

ويبقى لنا حفظ الله للسُّنة، قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

رحم الله البخاري ومسلمًا، وسائر أئمة الإسلام.

وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.