الفساد (6)

  • 236

نماذج مِن الفساد ومكافحته ذكرها القرآن الكريم (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

مِن صور الفساد التي ذكرها القرآن الكريم فساد قارون الذي عاصر فرعون موسى، ولكنه كان مِن بني إسرائيل، وقد أرسل الله -تعالى- له موسى -عليه السلام- لينهاه عما هو عليه مِن الفساد، ولكنه أبى واستكبر، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (غافر:23-24)، وقال -تعالى-: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ . فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت:39-40)، ومعلوم أن الذي خُسفت به الأرض هو قارون، والذي أُغرق فرعون وهامان وجنودهما.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقارون كان كافرًا في الباطن، منافقًا في الظاهر" (البداية والنهاية).

وقد كان فساد قارون في بغيه على قومه، واغتراره بماله وقوته ونفوذه، ورفضه الإحسان إلى الآخرين وحرمانهم مِن حقوقهم عليه، مع وقوعه في الكبر بادعاء أن ما عنده مِن أموال طائلة إنما اكتسبها بعلمه ومواهبه وقدرته، وليس لأحدٍ عليه فيه فضل، وليس لأحدٍ فيه نصيب، بل عمد إلى إظهار غناه ونفوذه بالخروج بطرًا على قومه في زينته، ليفتنهم بما لديه، فخسف الله به الأرض أمام الجميع لتكون عقوبته عبرة يُضرب بها المثل لكل مَن جاء بعده، قال -تعالى-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ . وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ . تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:76- 83).

مدافعة فساد قارون:

لما زاد بغي قارون أرسل الله له موسى -عليه السلام-، كما شارك علماء بني إسرائيل وصالحوهم في وعظ قارون وتذكيره، ونصح مَن فُتن به وتمنى أن يكون مثله على بغيه، فقالوا لقارون كما قال الله -تعالى- عنهم: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، وقالوا لمَن فُتن به ما قاله -تعالى- عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).

فلما أقيمت عليه الحجة البالغة وتمادى في البغي والعناد؛ خسف الله -تعالى- به وبداره الأرض، فصار كأن لم يكن، وختم قصته بتلك العبارة العظيمة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).

وهذا حال كل مَن ضيَّع حقوق الله عليه وحقوق العباد، وعند أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفي صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُرْهَانٌ وَلَا نُورٌ وَلَا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَهَامَانَ وَفِرْعَوْنَ وَأُبَيِّ بن خلف) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، وضرب المثل بهؤلاء لتنوع أسباب فسادهم وطغيانهم، فقارون أفسده ماله، وفرعون أفسده ملكه، وهامان أفسدته وزارته، وأبي أفسدته تجارته. نسأل الله -تعالى- السلامة والعافية.

ومِن نفس نوع الفساد الذي مارسه قارون كان فساد أصحاب الجنة الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة القلم، قال -تعالى-: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ . فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ . وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ . فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ . قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ . قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ . فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ . قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ . عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ . كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (القلم:17-33).

وهذه القصة ضربها الله -تعالى- مثلًا لكفار قريش فيما أهدى لهم مِن الرحمة العظيمة والنعمة الكبيرة، وهو بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقابلوه بالتكذيب والمحاربة، فكأنهم كمثل أصحاب الجنة الذين قابلوا نعمة الله عليهم بالعزم على منع حق الفقراء والمحتاجين، بجز وقطع ثمارها ليلًا؛ لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل فلا يتصدقوا مِن ثمارها بشيءٍ مما ينبغي عليهم فيها، وهذا إفساد بإيثار المصلحة الشخصية على حساب ما ينبغي للغير؛ استحقوا بها العقوبة الربانية بحرمانهم مِن ثمار هذه الجنة بالكلية، والجزاء مِن جنس العمل، فمَن حَرَم غيره مما ينبغي له حُرم هو مما في يده مِن الخير؛ لذا حرموا خير جنتهم بذنبهم، ومَن حرص على الاستكثار بما ليس له عوقب بنقيض ما أراد، وحرم مما كان له؛ لذا عوقبوا بنقيض قصدهم، نسأل الله -تعالى- العافية والسلامة.

ومِن صور الفساد التي ذكرها الله -تعالى- في القرآن الكريم قصة قوم لوط: وقد ابتدع قوم لوط فاحشة لم يسبقهم أحدٌ إليها، وهي إتيان الرجال مِن دون النساء، وقد وردت قصتهم في العديد مِن سور القرآن الكريم، منها سور: الأعراف، وهود، والحجر، والشعراء، والنمل، والعنكبوت، والصافات، والذاريات، والقمر، وقد دعاهم نبي الله لوط -عليه السلام- إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن اقتراف الفواحش، ولكنه لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا له، واستمروا على فسادهم وضلالهم. قال -تعالى-: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (الأعراف:80-81)، وقال -تعالى-: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (العنكبوت:28-29).

وفي هذه الآيات وما شابهها ردٌّ على مَن يدعي وينادي بإطلاق الحريات الشخصية -باسم الليبرالية الدينية- في مثل هذه الفواحش المعاندة للشرع والمخالِفة للفطرة السوية بمفاسدها الاجتماعية والأخلاقية الخطيرة على المجتمع ككل.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويخونون الرفيق ويأتون في ناديهم -وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم- المنكر مِن الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافها، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ولا يستحيون مِن مجالسيهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظٍ، ولا نصيحة عاقلٍ، وكانوا في ذلك كالأنعام، بل أضل سبيلًا، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلًا، فأخذهم الله أخذا وبيلًا" (البداية والنهاية).

قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود:82-83)، قلبها -عز وجل- فأهوى بها منكسة، عاليها سافلها، وغشاها بمطرٍ مِن الحجارة مِن سجيلٍ متتابعة مسومة مرقومة. و(سِجِّيلٍ): لفظ فارسي معرب، وهو الشديد الصلب القوي. و(مَنْضُودٍ): أي يتبع بعضها بعضًا في نزولها عليهم مِن السماء. و(مُسَوَّمَةً): معلَّمة.  

وقال -تعالى- في سورة الشعراء: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ . قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ . قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ . رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ . فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ . ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ . وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين) (الشعراء:160-173).

وقال -تعالى-: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ . فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ . وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (النمل:56-58)، وقال -تعالى-: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (العنكبوت:29-30)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ . فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:38-39).

ويُعد اللواط مِن المفاسد الاجتماعية والأخلاقية بما يتسبب فيه مِن أضارٍ بليغةٍ على الفرد الممارس له وللمجتمع مِن حوله، ومِن ذلك:

- ما فيه مِن الانحراف عن الفطرة السوية، وما يسببه مِن قلة الحياء في مواجهة مجتمع يزدريه.

- ما فيه مِن قتل المروءة والرجولة، وذهاب النخوة والكرامة وضياع الفضيلة.

- الميل إلى الانطواء والعزلة والمعاناة مِن الاضطراب النفسي؛ إذ لا يميل، ولا يأنس ممارس اللواط إلا لمَن على شاكلته وحاله.

- الانصراف عن مباشرة النساء ولو كانت زوجة، فلا يشتهيها مع القدرة على مباشرتها؛ مما يتسبب في زيادة العنوسة، وضياع حقوق الرعاية للزوجات.

- نقص إشباع العاطفة الجنسية؛ إذ إن اللواط بعيد عن إرضاء المجموع العصبي للفرد مع ما فيه مِن الإجهاد للجهاز العصبي، فلا مقارنة بيْن فسيولوجيا الجماع ووظيفة الأعضاء التناسلية الطبيعية فيه بما يحدث في اللواط الذي يصيب مقترفه بالتوتر، وخفقان القلب، والوهن العام.

- ما يسببه مِن الأمراض التناسلية المعدية الخطيرة، وفي مقدمتها: الإيدز، والزهري، والسيلان، والهربس.

ونظرًا لعنف ممارسة الجنس عن طريق الشرج فيتسبب اللواط في تمزق المستقيم، وهتك أنسجته وارتخاء عضلاته، وعدم القدرة على التحكم في البراز، فتخرج المواد البرازية بغير إرادةٍ أو شعورٍ.

ولشناعة فعل قوم لوط مع براءته -عليه السلام- التامة منهم، لا نجد مِن الناس مَن يسمِّي ابنه باسم: "لوطٍ"، مع عادة الناس في تسمية أبنائهم بأسماء الأنبياء!

ومِن صور الفساد التي ذكرها القرآن: قصة مدين قوم شعيب -عليه السلام-، وقد وردت في العديد مِن سور القرآن الكريم، وعادة ما يأتي ذكرها عقب ذكر قصة قوم لوط كما في سور: الأعراف، وهود، والحجر، والشعراء، ومدين كانت قريبة مِن أرض معان مِن أطراف الشام؛ مما يلي الحجاز قريبة مِن أرض قوم لوط وبعدهم بمدة قريبة، وكان أهل مدين مِن أسوأ الناس معاملة؛ يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، ويأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص، وشعيب -عليه السلام- رجل منهم، ونبي بعثه الله إليهم، دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة الأيكة، وهي شجرة مِن الأيك حولها غيضة ملتفة بها كانوا يعبدونها، ونهاهم عن بخس المكيال والميزان، وحذرهم مِن عقاب الله -تعالى- لهم في الدنيا والآخرة.

وقد سمَّى بعض السلف شعيبًا -عليه السلام- خطيب الأنبياء؛ لفصاحته وبلاغته في دعوة قومه، فاتبعه بعض قومه وعارضه أكثرهم حتى أحل الله بهم بأسه الشديد، قال الله -تعالى-: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ . وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ . وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ . قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ . وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ . فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:176-191)، وقال -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ . كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (هود:94-95)، وقال -تعالى-: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:91-92).

ومما ورد في هذا الشأن أيضًا: قصة يوسف -عليه السلام-، والتي جاءت مفصَّلة في سورةٍ كاملةٍ سُميت باسمه، وجاء فيها ذكر بعض مظاهر الفساد التي كانت في مصر في زمنه، وذكر صورٍ مِن تدابير الوقاية مِن وقوع الفساد التي مارسها يوسف -عليه السلام- إبان توليه خزائن مصر وقت المجاعة والشدة، وهي الأوقات التي يخشى فيها حدوث الفساد؛ إذ تزيد فيها نسبة حدوثه، وتزداد فيها آثاره السيئة.

ومما ذكر في ذلك:

- صورة مِن الفساد السياسي والقضائي: والذي ترتب عليه إلقاء يوسف -عليه السلام- في السجن بضع سنين بغير ذنبٍ ولا جريرةٍ، بعد أن تآمرت عليه امرأة العزيز ونسوة المدينة، قال -تعالى-: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف:35).

وكان الغرض مِن إدخاله السجن: إظهار يوسف -عليه السلام- أمام الناس في صورة المخطئ المذنب، وليكون بقاؤه في السجن لسنين سبيلًا لنسيان الجميع خطأ امرأة العزيز وقصتها مع يوسف، ولكن الله -تعالى- مكَّن يوسف عليه مِن الخروج مِن سجنه معززًا مكرمًا، ومبرأ مِن كل تهمة ليتولى خزائن مصر بعد اعتراف امرأة العزيز والنسوة ببراءته -عليه السلام-.

ويُلاحظ: أن الذي نفَّذ الحبس أصحاب السلطة، بينما كان التحريض والأمر مِن امرأة العزيز، حيث قالت: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف:32).

صورة مِن الفساد الاجتماعي: وتتمثل فيما كانت عليه الأوضاع في بيت العزيز مِن اختلاط الرجال بالنساء والخلوة بهن، وما كانت عليه النساء في ذلك الوقت مِن الحظوة والتأثير، وإطلاق اليد في تصريف الأمور، ورغم انكشاف أمر امرأة العزيز لم يسعَ عزيز مصر إلى تغيير هذه الأوضاع داخل بيته! حيث اكتفى بقوله لامرأته: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:28-29)، فترك الأمور على ما هي عليه، لتتمادى امرأة العزيز مع نسوة المدينة في ملاحقة يوسف -عليه السلام- مِن جديدٍ.

حكمة يوسف في تصريف الأمور خلال المجاعة:

ضرب يوسف -عليه السلام- المثل الرائع في القيادة خلال المحنة العظيمة التي حاقتْ بمصر وما حولها طوال سبع سنوات عجاف، وهذه القيادة الحكيمة منعتْ بالقطع ظهور الفساد في البلاد رغم الشدة والمجاعة، وهي مِن صور الحماية والوقاية مِن الفساد الواجب على أولياء الأمور مراعاتها.

ومِن مظاهر ذلك:

1- وضع الخطة المناسبة للتعامل مع المجاعة مِن خلال:  

أ- بذل أقصى جهد ودأب في الإنتاج خلال سنوات ما قبل المجاعة، حيث قال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) (يوسف:47).

ب- الحث على الاقتصاد في الاستهلاك والأكل، وادخار ما زاد على ذلك في سنبله لحين الحاجة الشديدة إليه، حيث قال: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) (يوسف:47-48)، ومعلوم أن مدار الاقتصاد على زيادة الإنتاج، والاقتصاد في الإنفاق، وادخار ما زاد أو استثماره.

2- التقدم لتحمل المسئولية:

إذ إنه مؤهل لها مِن خلال الصفات الواجبة فيمن يتحمل هذه المسئوليات، وأهم الصفات الواجبة كما بيَّنها يوسف -عليه السلام- هي الحفظ والعلم، حيث قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)، ومعنى (حَفِيظٌ): أي قوي على حفظ ما لدي، أمين عليه. ومعنى (عَلِيمٌ): أي عليم بضبط الأشياء وتدبيرها ومراعاة مصالح الخزائن.  

3- معايشة الناس والتعرف عليهم وعلى أحوالهم، ومعرفة الداخل والخارج منهم بنفسه، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف:58).

4- الوفاء في الكيل والإحسان إلى المحتاجين وحسن قراهم، والمساواة بين الجميع في العطاء والكيل، حيث قال: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (يوسف:59)