متى ضاعت الجولان؟!

  • 656

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛    

فقد تذكرتُ وأنا أقرأ خبر مرسوم "ترامب" -الذي لا يملك- الاعتراف بسيادة إسرائيل -التي لا تستحق- على الجولان التي هي أرض محتلة بالاتفاق، داخلة في حدود دولة عربية عضو في الأمم المتحدة معترف بحدودها عبر عشرات السنين، هادمًا بذلك كل ما يُسَمُّونه: "المواثيق الدولية!"، وقوانين وقرارات هذه المنظمة التي تبيَّن أنهم أنشأوها لتبرير وتكريس واقع القوة الظالمة ليصبح حقًا معترَفًا به، ثم هدموا أُسُس إنشائها ليعودوا إلى عصور الإمبراطوريات الغازية التي تضم أراضي مَن حولَها حتى مَن بَعُد عنها بحكم القهر والغلبة.

تذكرتُ خطابًا سَمعتُه بنفسي في أواخر سبعينيات القرن الماضي مِن الرئيس المصري السابق "أنور السادات" بعد ما هاجمته الدول العربية آنذاك مِن أجل "كامب ديفيد"، وكانت سوريا -حافظ الأسد- تتزعم الهجوم والحصار والمقاطعة لمصر؛ فخرج "السادات" ليَفضح حقائق يعلمها عن الجولان، فقال فيما قال: "كل العسكريين في العالم يعلمون أن الجولان قد بيعت -يعني في حرب 67، حينما كان حافظ الأسد والد بشار الأسد وزيرًا لدفاع سوريا-".

وقال: "إن الجولان أُعلن سقوطها قبل أن يدخلها عسكري إسرائيلي واحدٌ؛ لأن الجولان مرتفعات لا يمكن أن تصعد إليها المُدرَّعات، وحمايتها تكون مِن أيسر ما يكون بأقل قوة، ولكن أُعلن سقوطها قبل دخول اليهود لها!".

وتذكرتُ أيضًا قصة رجل سوري حكى لي أنه كان جنديًّا في الجيش السوري أيام حرب 67 أخبرني أنهم قد صدرت لهم الأوامر من الانسحاب مِن الجولان، وليس أمامهم أي جنود أو مدرعات أو أي وجود للجيش الإسرائيلي! علمتُ ساعتها: لماذا صار حافظ الأسد العلوي بعد ذلك رئيسًا لسوريا؟!

وحكى "السادات" أيضًا: أنه بعد أن صار رئيسًا أخبر الملك فيصل أنه يعزم على الدخول في حرب ضد إسرائيل -حرب 73- بالتحالف مع سوريا؛ فقال له الملك فيصل: "كيف تضع يدك في يد حافظ الأسد؟! إنه علوي!"، فقال له: "يا جلالة الملك، قد اتفقنا ووضعنا خططًا مشتركة"، ونحو هذا، ثم حكى كيف وقع التخاذل الشديد على الجبهة السورية في حرب 73، حتى ازداد الضغط جدًّا على الجبهة المصرية، إضافة إلى الدعم الأمريكي المباشر لإسرائيل في سيناء، وسوغ بذلك قبوله بوقف إطلاق النار.

تذكرتُ كل ذلك وأنا أنظر إلى منطقتنا بعد أكثر مِن ستين سنة، كيف وصل حال دولنا العربية والإسلامية وحال مجتمعاتنا إلى هذا الضعف والهوان، وعلمتُ: لماذا تجرأوا علينا؟!

لما وجدوا مِن الطمأنينة التامة للضعف المتناهي للبلاد الإسلامية كلها، وانتقال الصراع بين العرب والمسلمين وبين إسرائيل إلى صراع داخل المجتمعات العربية والمسلمة نفسها؛ وما ذاك إلا بمساهمة فعالة وأكيدة مِن الحركات والجماعات الموجَّهة مِن الأعداء -بعلمٍ أو بدون علمٍ-، حتى صار الصِّدَام الحاصل -بين الدول والأنظمة من جهة، والجماعات الداخلية من جهة أخرى- هو الذي يشغل كل هذه الدول والمجتمعات، وبدلًا من المحافظة على تماسك الدولة والمجتمع صار العدو الإستراتيجي لكلٍّ مِن الفريقين هو الفريق الآخر؛ مما كرس الانقسام الطائفي داخل المجتمعات، ومِن خلاله تتعرض الهوية الإسلامية والثوابت الإسلامية لمحاولات الهدم المستمرة.

قال الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، وقال -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:165)؛ إن الله ما سلَّط علينا أعداءنا إلا عدلًا منه وحكمة (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).

إن الخطر العظيم الذي يتهدد واقع أمتنا هو في المحاولات الدؤوبة لتمييع الهوية الإسلامية، والابتعاد عن الدين ومهاجمة ثوابته بالليل والنهار؛ إن الأمة مُستهدَفَة في دينها وقِيَمها وأخلاقها وأهدافها، وقد صارت آمال الشباب مُعَلَّقة بالكُرَة، وصار إحراز أهدافها هو الهدف الأكبر لكثيرٍ منهم، والفوز بمسابقاتها أو حتى مجرد بلوغ أدوارها شبه النهائية هو الفوز الأكبر في حِسِّ كثيرٍ منهم، والأبطال هم نجوم الفن والسينما التي يضغط الغرب بكل قوة لإدخالها لكل بلاد المسلمين، وتحرير المرأة من عبوديتها لله لتصبح مملوكة لأهل الشهوات والفسق والفجور، وتصير لعبة فوق البيع في كل تجارة فاسدة باسم التقدم وانتصار قيم الحرية الغربية.

إن محاربة الدين والتدين وطمس الهوية الإسلامية لبلادنا لم ينتج عنه إلا الخراب والتمكين للأعداء، وهم لا يَرقُبون في مؤمنٍ إِلًّا ولا ذمة، ولن يعطوا مَن يتحالف معهم ويُمَكِّن لهم لتغيير قيم المجتمعات شيئًا مما تمناه!ّ

ما أشبه الليلة بالبارحة؛ نفس الخطاب الزاعم حرية العبادة لأهل الأديان مع أن المسجد الأقصى يُمنع مِن الصلاة فيه أهله الذين هم أهله في فلسطين والقدس، ليتمكن اليهود مِن دخوله في أي وقتٍ يشاءون؛ هو نفس الخطاب المذكور في اتفاقية تسليم غرناطة وسقوط الأندلس التي كانت تتضمن عدم إكراه المسلمين على ترك معتقدهم، وما لبثوا إلا مُدَّة يسيرة جدًّا إلا وقد نقضوا عامة بنودها، وأقيمت محاكم التفتيش البشعة وأزيل الإسلام والمسلمون بالكلية بأبشع صور الإبادة؛ فهم يستخدمون هذا الخطاب لمدةٍ وجيزة يظهر بعدها الوجه الحقيقي مِن التعصب الممقوت والعدوان ونقض العهود.

ومع ذلك فإن عقيدتنا في أن أمتنا قد تمرض، ولكن لن تموت راسخة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وسُتعافَى الأمة بعد حين وتعود لها عزتها إذا عادت لدينها، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8)، وقال -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).

عقيدتنا لا تتزعزع في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ) (رواه مسلم).

ومع يقيننا بذلك إلا أنه لابد لنا من نظرة إلى واقعنا اليوم والارتباط بين مِحَن المسلمين وما يصيبهم مِن آلام، وبين أمراض القلوب وأحوال النفوس والأعمال؛ فإن هذا النوع من التسلط مِن الأعداء لابد أن يجعلنا نعيد النظر في حالنا، ولا أقصد بذلك البلاد التي نزل بها البلاء دون غيرها؛ بل ربما كانت عقوبة العامة بنزول البلاد في بعض البلاد ليغفر الله -عز وجل- لهم ويتجاوز عنهم ويعفو عنهم، لكن لابد أن ننظر في جميع أحوال مجتمعاتنا؛ لابد أن ينظر العاملون من أجل الإسلام في أحوال قلوبهم.

إن التفرق الحالي الذي هو من أعظم أسباب تسلط الأعداء لا يمكن أن يكون بغير أمراض للقلوب ضيعت سلامتها وأفسدت أحوالها؛ إن إسلام القلوب لله كما أنه سبب لنجاة أصحابها يوم القيامة وصلاحهم واستقامتهم في خاصة أنفسهم فهو كذلك من أعظم أسباب التمكين؛ فإن الله يغير موازين الكون وسُنَنه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة وإن كانت قليلة مُستضعَفة ليس لها من أسباب القوة ما يحقق لها ما ترجوه من إعلاء دين الله -سبحانه وتعالى-، (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (آل عمران:123)، وقد بَيَّن -سبحانه- أن الهزيمة في أُحُد كانت بسبب تسلل مرض حب الدنيا إلى قلوب بعض المؤمنين فقال: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (آل عمران:152).

وقد اشترط الله -سبحانه- للتمكين في الأرض عبادة من العبادات القلبية، قال الله -تعالى-: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:13-14)؛ فهلاك الظالمين مرتبطٌ بخوف مقام الله -عز وجل- بالمراقبة والاطلاع ثم بالمحاسبة يوم القيامة، وخوف وعيد الله -سبحانه وتعالى-.

أما إذا كانت النفوس بعد لم تُزَكّى والقلوب لم تصلح أوشكت الغاية أن تتبدل والوسائل أن تنحرف؛ فبدلًا من أن يكون التمكين في الأرض وسيلة لإقامة العبودية لله، لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يصير عند الكثيرين غاية أو وسيلة لتحصيل حظوظ النفس من الدنيا أو الانتقام لها، وبدلًا مِن أن تكون أهم الوسائل هي الحرص على متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الصغير قبل الكبير صارت الوسائل هي المداهنة في أساسيات العقيدة وثوابت الدين.

إن سلامة القلب هي أول ما يجب على المكلَّف أن يحرص عليه؛ إذ لا يكون الإيمان ولا تحصل الأعمال إلا بسلامة القلوب من الأمراض التي كرهها الله -عز وجل-، وأمر العباد أن يداووا أنفسهم حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من حياة أصحابها.

أما إذا أهمل علاج هذه الأمراض المتأصلة في النفس من العُجب والكبر والغرور وحب الرياسة والجاه والشهرة والرياء والسمعة التي ينشأ عنها تنافس الناس على هذه الدنيا؛ زاد الأمر في القلب حتى يصل إلى الشرك والنفاق، والعناد والفساد في الأرض مما ينذر بالهلاك والخسران.

لابد أن نعيد النظر في أحوالنا ليغير الله -عز وجل- ما بأمتنا مِن بلايا ومِحَن، وكلنا مسئولون.

ونسأل الله -عز وجل- أن يحفظ بلاد المسلمين ومجتمعاتهم مِن كل سوءٍ.