عِبَرٌ من التاريخ... اتباع السُّنة في أحلك الظروف

  • 224

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي فتح نهاوند ببلاد فارس، أظهر المسلمون مواقف عظيمة تدل على ما كانوا عليه مِن خصالٍ حميدةٍ وصفاتٍ جليلةٍ، فقد ذكر معقل بن يسار أن النعمان بن مُقَرِّن أرسل المغيرةَ بن شعبة إلى ملكهم.

وبعد حوار دار بين المغيرة وبين ملك فارس قال الملك: "إن شئت قطعنا إليكم وإن شئتم قطعتم إلينا. فقلت: لا، بل نحن نقطع إليكم. قال: فقطعنا إليهم، فسلسلوا كل خمسة وسبعة وستة وعشرة في سلسلة حتى لا يفروا، فعبرنا إليهم فصاففناهم فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: إنه قد أسرع في الناس قد خرجوا قد أسرع فيهم، فلو حملت؟" (مصنف ابن أبي شيبة).

وفي رواية عن زياد بن جبير بن حية قال: "أخبرني أبي: فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا الْعِلْجُ إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا بِنَهَاوَنْدَ، وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: اعْبُرُوا، فَعَبَرْنَا قَالَ أَبِي: فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّ الْعُلُوجَ يَجِيئُونَ، كَأَنَّهُمْ جِبَالُ الْحَدِيدِ، وَقَدْ تَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَفِرُّوا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ قُرِنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَ سَبْعَةٌ فِي قِرَانٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ خَلْفَهُمْ، وَقَالُوا: مَنْ فَرَّ مِنَّا عَقَرَهُ حَسَكُ الْحَدِيدِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حِينَ رَأَى كَثْرَتَهُمْ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فَشَلًا، إِنَّ عَدُوَّنَا يُتْرَكُونَ أَنْ يَتَتَامُّوا، فَلَا يَعْجَلُوا أَمَا، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْأَمْرَ إِلَيَّ لَقَدْ أَعْجَلْتُهُمْ بِهِ" (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

فقال النعمان: "رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، وَلَمْ يُخْزِكَ، وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ" (رواه البخاري).

وفي رواية: "شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ" (مصنف ابن أبي شيبة).

وفي رواية: "وإنه والله وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أُنَاجِزَهُمْ، إِلَّا لِشَيْءٍ شَهِدْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذْ غَزَا فَلَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ لَمْ يُعَجِّلْ حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ، وَيَطِيبَ الْقِتَالُ" (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

فتأمل في هذا الخبر وما فيه مِن الحرص على متابعة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحاصله أن المغيرة أنكر على النعمان تأخير القتال فاعتذر النعمان بما قاله وما أوَّل به. (فتح الباري لابن حجر 6/ 306).

فكان تأخير النعمان المقاتلة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة (إرشاد الساري 5/ 233).

ففيه فضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله، ولا يعارضه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُغير صباحًا؛ لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة (فتح الباري لابن حجر 6/ 308).

وكم في التاريخ من عِبَرٍ، فاعتبروا يا أولي الأبصار.