وقفات بين يدي العشر (موعظة الأسبوع)

  • 340

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض مِن الخطبة:

إثارة الهمم إلى الاجتهاد في العبادة في الليالي الباقية من رمضان.

المقدمة:

- بالأمس القريب كنا نستقبل رمضان، وها هو يركض وقد ذهب أكثره: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة:183-184).

- مظاهر ذلك في السنن الشرعية والكونية: (أواخر الليل - آخر الأنبياء - آخر عمره صلى الله عليه وسلم - آخر السماوات - آخر الكتب السماوية).

- ليالٍ مباركة أوشكت على الرحيل، بقي منها آخرها وأفضلها: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ" (رواه مسلم)، فلابد مِن وقفاتٍ مع إقبال ليال البركات.

الوقفة الأولى: بيان فضل العشر الأواخر:

- اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها؛ لأنها خاتمة الشهر: قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ) (رواه البخاري)، وقال في المحرم الذي وقصته ناقته: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) (متفق عليه).

- هذه عشر النشاط، لكل الفئات: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" (متفق عليه).

- فيها ليلة القدر: قال -صلى الله عليه وسلم-: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) (رواه البخاري).

الوقفة الثانية: بيان فضل ليلة القدر(1):

- هي ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته: قال -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1).

- التعبد لله فيها خير من عبادة العمر: قال -تعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3)، (83 سنة وزيادة).

- ولمَ لا وهي ليلة التقدير لعامٍ جديدٍ فكن على الطاعة؟! قال -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:3-4).

- ولمَ لا وهي التي أنزلت فيها أعظم الكتب السماوية؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ) (رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني).

- ولمَ لا وهي التي تكون الملائكة فيها أكثر ما يكون؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

- ليلة سلام وأمان للمؤمنين الطائعين: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر:5).

- مِن فضل الله أن أخفاها ليجتهد المجتهدون: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) (متفق عليه).

الوقفة الثالثة: هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحين في العشر:

- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقطع فيها للعبادة التماسًا لليلة القدر: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"(2) (متفق عليه).

- كانت عائشة -رضي الله عنها- تجتهد فيها وتسأل عن أعمالها، قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: (قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وكان ثابت البناني يلبس أحسن ثيابه، ويطيب المسجد بالنضوح في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

- وكان تميم الداري -رضي الله عنه- له حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

- فيا مَن ضاع شهرك، هذا فرصة عمرك، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

الوقفة الرابعة: لابد من وقفة محاسبة قبل العشر:

- بقي الثلث فماذا عملت فيما مضى؟ وماذا أنت فاعل فيما بقي؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (الحشر:18)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم".

- المقصود بالمحاسبة: أن يتعامل الإنسان مع أعماله معاملة التاجر الناصح، فرأس ماله الواجبات، وأرباحه النوافل، وخسائره الذنوب والتقصير.

- ماذا فعلتَ في موسم الأرباح؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ) (رواه ابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره).

- حاسب نفسك في الدنيا يخف حسابك يوم الحساب: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (آل عمران:30).

- مِن أحوال الصالحين في محاسبة أنفسهم وخوفهم من يوم الحساب: جاء أعرابي فقير لعمر -رضي الله عنه- يسأله فقال: "يا عمر الخير جزيت الجنة، اكسوا بناتي وأمهن، وكن لنا من الزمان جنة، أقسم بالله لتفعلن! فقال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذًا ابا حفص لأمضين. قال عمر: وإن مضيت ماذا يكون؟ قال: والله عنهن لتسألن، يوم تكون الأعطيات يَمْنَهْ، وتقف إما إلى النار أو إلى الجنة، فلم يملك عمر إلا أن ذرفت دموعه على لحيته ودخل إلى بيته فلم يجد شيئًا، فخلع رداءه وقال: خذ هذا ليوم تكون الأعطيات يَمْنَهْ، وموقف المسئول يبين إما إلى نار وإما إلى جنة".

الوقفة الأخيرة: كيف نعيد النشاط واللذة إلى العبادة فيما بقي؟(3):

- تساؤل: هل حصلت أرباح الشهر فارتحت وكسلت؟!

- هل ضمنت فتح أبواب الجنان لك وغلق أبوب النيران عنك؟!  

- تذكر أنك كنت تنتظر رمضان وطال انتظارك، وكم سيكون انتظارك لأيام أنت فيها: "اللهم بلغنا رمضان".

- تذكر فرحة اكتمال الشهر، ويوم القيامة بالأجر: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ) (متفق عليه).

- تذكر باب الريان والدخول منه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) (متفق عليه).

- تذكر أن تعب ساعات قليلة تزول، ثمن لراحة طويلة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة:24).

- تذكر مَن ضمن الجنة -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك كان يقوم الليل طوال العام، ويقوم حتى تتورم قدماه؛ فأين أنتَ مِن هداه؟!

- مباشرة الأسباب المادية: "الاغتسال بين المغرب والعشاء - التطيب - لبس أفضل الثياب - مغايرة الأماكن - تجديد الوضوء".

اختم بخير: (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ) (رواه البخاري).

نسأل الله -تعالى- الإعانة على القيام والصيام في الليالي القادمة المباركة العظام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) سُميت ليلة القدر؛ لعظيم قدرها، فهي ليلة ذات قدر، نزل فيها كتاب ذو قدر، على نبي ذي قدر، على أمة ذات قدر.

(2) كان يتفرغ لطاعة الله ويشتغل بالذكر والقراءة والصلاة، ويتخذ لنفسه خباءً؛ ليتجنب مخالطة الناس.

(3) الإشارة إلى مظاهر الفتور والكسل عند البعض في أواسط الشهر وقبل دخول العشر. وهل طال علينا الأمد؟ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد:16). ومِن المظاهر: (ترك بعض ليل التراويح - ضعف القراءة اليومية - استثقال صلاة التراويح).