غفر له ما تقدم من ذنبه

  • 236

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فكثيرًا ما يتردد على ألسنة الخطباء والوعاظ في رمضان مقولة غفر له ما تقدم مِن ذنبه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه).   

ومعنى إيمانًا: أي إيمانًا بمشروعيته وفرضيته إن كان صوم رمضان كما في الحديث، واستحبابًا إن كان قيام رمضان.

واحتسابًا: أي إخلاصًا لله لا يريد به إلا وجه الله، لا يريد رياءً ولا سمعة.

فكل هذه النفحات والعطايا تملأ القلب محبة وإخباتًا لله -تعالى- الغفور الودود، الذي يتودد إلى خلقه مع كمال غناه عنهم، وتجعلك توقن بعظيم رحمة الله -تعالى- الخالق الرحيم لتقبل القلوب وتعود إلى ربها، مستصحبة هذه الرحمات وهذا الفضل الكبير الذي مما لا شك فيه يهوِّن على العبد الكثير مِن التعب والنصب الذي قد يجده في أثناء عبادته لربه

وهذا مع كمال غناه -تعالى- عنهم فهو لا يتضرر بمعصيتهم ولا ينتفع بطاعتهم، كما قال في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) (رواه مسلم).

بل العباد هم الفقراء إليه كما قال سبحانه وبحمده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15).

نعم قد نص جمهور أهل العلم أن المراد بما تقدم مِن ذنبه، يعني مِن الصغائر، وأما الكبائر فلا بد لها مِن توبة مستقلة، لكن الناظر إلى ما يسره الله -تعالى- لعباده في هذا الشهر المبارك مِن سبل الخير وما أغلقه وحجمه من سبل الشر يكون من أقوى الدوافع على قرب العبد من ربه وخشيته، ورجاء ما عنده، فيبادر حينها بالتوبة مِن الذنوب كبيرها وصغيرها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

 وأضف إلى ذلك: أن الصيام يستر صاحبه ويحفظه مِن الوقوع في المعاصي التي هي سبب العذاب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)

والصيام مِن أكبر أسباب تحصيل التقوى، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:١٨٣).

 بل ويحذرهم -تعالى- الذل والمهانة والخسران الذي يحصل لهم مِن انسلاخ هذا الشهر المبارك دون أن يغفر لهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ليكون ذلك دافعًا لهم على الجد والعمل، وعلى حسن الاستغلال لهذه الأيام المباركة فيتعرضوا لنفحاته -سبحانه وبحمده-، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ) (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني).

فاللهم لك الحمد، لا نحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك.