هكذا علمتني المدرسة الرمضانية!

  • 314

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتدور الأيام وتنقضي الشهور وتمر السنون، والمسلم يجعل له في كل ذلك عبرة، ويستشعر فضل الله -سبحانه وتعالى- عليه.

وما طل علينا شهر رمضان ببركاته وخيراته التي منحها الله إياها إلا لمزيد فضلٍ منه علينا، وعظيم امتنانه، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والعبد دائمًا بين نعمة مِن الله تحتاج إلى شكر، وذنب يحتاج فيه إلى استغفار، وكل مِن هذين مِن الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه" (التحفة العراقية).

فاستعنت بالله أولًا وأخيرًا، وأحببت أن أسرد لنفسي ولإخواني بعضًا ممَا تعلمته أو رأيته أو ربما شعرت به أو معنى أخذته مِن سلوك إخواني بعد تخرجنا مِن المدرسة الرمضانية، وانتهاء هذا الشهر الفضيل متمثلًا قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مَن هذا المقبول منا فنهنيه، ومَن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول: هنيئًا لك، أيها المردود: جبر الله مصيبتك".

 فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، ويرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل.

١- علمتني المدرسة الرمضانية:

التسليم والإذعان التام لله -تعالى- بمنتهى الرضا والحب، فالله عظيم في تشريعه، حكيم في اختياره، ملك عزيز في ملكه، صرَّف قلوب العباد العصاة قبل الطائعين إلى بيوته وإلى كتابه، وجعل للصوم أثرًا كبيرًا على أبدانهم وقلوبهم، فبان للقاصي والداني، فلله الفضل والمنة.

٢- علمتني المدرسة الرمضانية:

أن كتاب الله عز للأمة وبركة عليها والطريق الوحيد لجمع كلمتها وعلو شأنها واشتداد قوامها بين الأمم، فظهرت بركات تلاوته على القلوب قبل الوجوه؛ فكيف لو حكَّمته الأمة في كل أمرها ورجعت إليه في كل شئونها، فالقرآن هو النعيم المعجل والعيش المرغد، والسرور المبهج، قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسراء:٩-١٠)، ولله الفضل والمنة.

٣- علمتني المدرسة الرمضانية:

أن الخير باقٍ في هذه الأمة، وأنه مهما غطت أراضيها الفتن، وتلاحقت فيها الشدائد والمحن، وعلا فيها أحيانًا صوت الباطل، فرمضان جاء بكل سهولة لمَن ظن أنها ماتت؛ فرد فيها الروح، وجمع فيها الهدف والمقصد، أظهر حجمها وقوتها في مشارق الأرض ومغاربها، وبيَّن أن المسلمين كيانهم واحد وسلوكهم إيماني، ودينهم رباني، وقلوبهم متعلقة بصدقٍ بربهم -جل وعلا-، وأنهم وإن غلبهم هواهم وساقتهم أحيانًا شهواتهم؛ إلا أنهم يحلِّقون في سماء العبودية لله -تعالى-، فلله الفضل والمنة.

٤- علمتني المدرسة الرمضانية:

رسالة واقعية عصرية حصرية لكل داعية ومتصدر للدعوة مهما كانت مكانته أو عظم فضله: أن العصاة والبعيدين عن حظيرة الإيمان فيهم خير كثير، ظهر وبان لكل صاحب عين وبصيرة، فرأى الجميع -والله أعلم بحالنا وحالهم- الخشوع يعلو وجوههم، والزفرات تملأ عيونهم، وقراءة القرآن أشبعت أرواحهم الجائعة، والصلوات غيَّرت مِن أحوالهم، وكانوا يتسابقون إلى فعل الخيرات، وانتهاز الأوقات الفاضلة، فيا دعاة الحق رفقًا رفقًا بالعصاة، ولا تيأسوا، وافتحوا صدوركم وقلوبكم لهم، وافعلوا ما عليكم وخذوا بأيديهم، فإن الله يهدي مَن يريد، فلله الفضل والمنة.

٥- علمتني المدرسة الرمضانية:

أن الأمن والأمان نعمتان كبيرتان مِن الله علينا بهما، حرمها غيرنا لحكم يعلمها -جل وعلا-، أقمنا الصلاة وعشنا الصيام، وملأنا المساجد ومشينا في الشوارع والطرقات في جوف الليل وآناء النهار في أمن وأمان، وجوٍّ مِن الراحة والسكينة، وتجمعت الهموم إلى هم واحد، هو تحقيق التقوى والفوز بالطاعة، فلله الفضل والمنة.

٦- علمتني المدرسة الرمضانية:

معنى التكافل المجتمعي، فبرغم الاختلاف الفئوي لطبقات المجتمع المسلم؛ إلا أن الجميع: الفقير قبل الغني كانوا يتسابقون في طلب الأجر وحصول الخير: كإفطار عابري السبيل حتى ولو على أقل القليل، وزيادة الصدقات وخاصة صدقة الفطر والشنط الرمضانية، والأكسية العيدية، فرأينا بأعيننا بيوت الفقراء والمحتاجين يملأها الخير والبشر، فلله الفضل والمنة.

٧- علمتني المدرسة الرمضانية:

أن الطاعة والعبادة جمعت شتات الأسر المتفرقة، والأرحام المتقطعة، والروابط الأخوية المتشرذمة، فغرست الألفة والمحبة وأعادتهم مِن جديد، وبثت فيهم الاتزان المجتمعي المعروف عن المجتمعات المسلمة في غياب تام عن النزعات الشيطانية والعداوات القديمة، وزادت الأسر المستقيمة استقامة، وجددت فيه الروح الإيمانية، ولله الفضل والمنة.

٨-علمتني المدرسة الرمضانية:

أن العبادة ليست ثقيلة على النفس نوعًا ما، فالمسلم المسافر المعتمر مثلًا يصلي في بيت الله الحرام، أو في المسجد النبوي القيام والتهجد وكله نشاط وحيوية، ويتمنى مِن كل قلبه استغلال تلك الفرصة بكل ما أوتي من قوة، ولا يشتكي ولا يتشكى، وحتى في المساجد الأخرى كبار السن والشباب يملأون الصفوف الأولى في القيام والتهجد، وكلهم نشاط وعليهم السكينة، وملامحهم عليها الطمأنينة والسعادة، فلله الفضل والمنة.

٩- علمتني المدرسة الرمضانية:

الإيثار وهضم النفس وتقديم الغير، والتعاون وحب المشاركة وإظهار صفات الأخوية في ضبط الصفوف في الصلاة، وحفظ المساجد ونظافتها في الاعتكاف، وتمنى الخير وشحذ الههم، وإيقاظ الغافل، واحترام الصغير وتقدير الكبير، فلله الفضل والمنة.

١٠- علمتني المدرسة الرمضانية:

أن أهل الباطل مهما تفننوا في باطلهم وزادوا مِن إغوائهم وزيَّنوا مِن برامجهم وتفاهاتهم فالقلوب المنكرة أكثر بكثير مِن تلك الضعيفة التي تشاهدهم، والمساجد خير شاهد ودليل، فلله الفضل والمنة.

فيا عباد الله: إن هذه الأمة أمة ولادة، وفيها الخير الكثير، والعلم والعمل باقيان فيها إلى قيام الساعة بأمر الله -تعالى-؛ فاستبشروا وساعدوا الناس على الاستقامة على أمر الله -تعالى- وحفظ حدوده، وإقامة دينه، قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران ١١٠).

أسأل الله أن يردنا إلى دينه مردًّا جميلًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.