الثبات (11) (موعظة الأسبوع)

  • 223

عوامل الثبات (7) العمل بالدعوة إلى الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

(1) المقدمة: وجوه التثبيت في العمل بالدعوة إلى الله:

- الدعوة إلى الله مِن أسباب الثبات؛ لأنها وظيفة أثبت الناس وهم الأنبياء -عليهم السلام-: قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).

- ولما كان الدعاة إلى الله هم أثبت الناس على مرِّ الزمان، على الرغم مما يتعرضون له مِن تضييق وتخويف واضطهاد؛ فمَن أراد الثبات عمل بعملهم، ففي حديث صلح الحديبية لما أخبر بديل بن ورقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- باجتماع قريش لحربه، وكان رد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرض الهدنة، ثم قال: ( ... وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ) (رواه البخاري).

- الداعي حريص على تطبيق ما يدعو إليه، فمَن عمل بالدعوة تجنب المخالفة ولابد، وهذا مِن أعظم عوامل الثبات: قال الله -تعالى-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)، وقال -تعالى- عن نبيه شعيب مع قومه: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88). (لذا فإنك تجد الشيطان يسعى لتخليص ضعفاء الإيمان المقبلين على التراجع مِن كل سمات الدعاة إلى الله، والتي أبرزها: السمت الظاهر: "اللحية - القميص - النقاب"، فتراهم يحرصون على إزالته من كيانهم).

- الجزاء مِن جنس العمل، فمَن حرص على هداية الناس وثباتهم هداه الله وثبته: قال -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69)، وقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7).

(2) فضل العمل بالدعوة إلى الله:

- لما كانت الدعوة إلى الله خير وظيفة، كان الدعاة إلى الله هم خير الناس: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).

- الدعوة إلى الله فضلها عظيم وثوابها كبير: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا إلى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- الدعوة إلى الله أفضل مِن قتال الكفار: قال ابن القيم -رحمه الله-: "وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل مِن تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير مِن الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله -تعالى- منهم بمنه وكرمه" (التفسير القيم، ص 431).

- السلف خير مَن فهم القضية: (أبو بكر يدعو مِن أول لحظة - الطفيل بن عمرو يحمل لواء الدعوة من أول يوم - أبو ذر المجاهر زمن السر - عمر يدعو إلى آخر نفس).

- وهكذا المخلصون في كل زمان ومكان: (الشيخ عبد الرحمن السميط -رحمه الله- أسلم على يديه ما يقرب من 11 مليون في أفريقيا مِن خلال مؤسسة "العون المباشر" أقام أكثر من 5000 مسجد ووزع خمسة ملايين مصحف).

3- أهداف الدعوة تدعو إلى العمل بالدعوة:

- أوجب الله الدعوة إليه لثلاثة أهداف عظيمة(1) تدعو كل مسلم إلى العمل بالدعوة، وتظهر الأهداف الثلاثة في قضية أصحاب السبت: قال -تعالى-: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف:163-166).

- ما هو مصير الساكتين؟ فإنهم سكتوا فسكت عنهم: عن عكرمة قال: "جئت ابن عباس يومًا وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس، جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في "سورة الأعراف"، قال: تعرف أيلة قلت: نعم. قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم، الله الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) قال الأيمنون: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون: فقد فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده مِن العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلمًا، وأعلوا سور المدينة رجلًا فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تعاوي، لها أذناب. قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها مِن الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ ابن عباس: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها شيئًا؟ قال: قلت: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه؟ وخالفوهم وقالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا). قال: فأمر لي، فكسيت ثوبين غليظين" (عبد الرازق وابن كثير في التفسير).

خاتمة:

- لا عذر لأحدٍ في ترك العمل بالدعوة إلى الله؛ لا سيما في هذا الزمان الذي تكالب فيه الأعداء، واشتدوا بوسائل إعلامهم الفاسد، لإفساد حياة المسلمين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري).

- الدعوة الميدانية لا تزال مفتوحة ووسائلها يسيرة: (البيوت والشوارع والتجمعات، والوظائف والمواصلات - و... وأنت أخي إما مدرسًا أو طالبًا، أو مهندسًا أو طبيبًا، أو عالمًا أو متعلمًا، أو سائقًا أو راكبًا رئيسًا أو مرؤوسًا).

فاللهم أهدنا واهدِ بنا، واجعلنا هداة مهتدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهذه الأهداف كالآتي:

الأول: تعبيد الخلق للخالق ودعوتهم إلى الله (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

الثاني: الإعذار إلى الله للنجاة مِن حساب ذلك في الآخرة (قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ).

الثالث: النجاة من عذاب الله الواقع بالعصاة في الدنيا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).