(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ)

  • 278

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكر الله -تعالى- ما حصل مِن كيد امرأة العزيز والنسوة بيوسف -عليه السلام-، وتهديد امرأة العزيز ليوسف بالسجن إن لم يستجب لها إلى ما تدعوه اليه مِن الفاحشة ومع ما هو فيه مِن عمر الشباب والغربة، وكذا إن الداعي هن النساء وهن علية القوم وغير ذلك، فلا يصمد أمام كل هذه المغريات، وكذا لا يبالي بهذه التهديدات إلا قلب مفعم بالإيمان كما هو حاله -عليه السلام- فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ولكن مع علو منزلته -عليه السلام- فهو يعلم يقينًا أنه لا حول ولا قوة له إلا بالله؛ لذلك لجأ إلى ربه -سبحانه- القريب المجيب، وقال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:٣٣).

فشرع -عليه السلام- في دعائه بتقديم عمل صالح وهو إيثاره السجن على ما فيه مِن الألم والضيق والحبس، قال ابن عاشور -رحمه الله-: "وفَضَّلَ السَّجْنَ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الألَمِ والشِّدَّةِ وضِيقِ النَّفَسِ عَلى ما يَدْعُونَهُ إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ بِالمَرْأةِ الحَسَنَةِ النَّفِيسَةِ عَلى ما فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، ولَكِنَّ كُرْهَهُ لِفِعْلِ الحَرامِ فَضُلَ عِنْدَهُ مُقاساةُ السِّجْنِ. فَلَمّا عَلِمَ أنَّهُ لا مَحِيصَ مِن أحَدِ الأمْرَيْنِ صارَ السَّجْنُ مَحْبُوبًا إلَيْهِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الوُقُوعِ في الحَرامِ فَهي مَحَبَّةٌ ناشِئَةٌ عَنْ مُلاءَمَةِ الفِكْرِ، كَمَحَبَّةِ الشُّجاعِ الحَرْبَ".

فكأنه يقول: يا رب، إني ما فعلت ذلك إلا ابتغاء مرضاتك، ولو أصابني ما أصابني، ولكن الأهم هو أن ترضى يا رب العالمين.

ثم شرع في إبراز فقره وضعفه لسيده ومولاه السميع العليم، وقال: (وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره وحاله وعفته، ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله وأحاط به الخذلان، وقد قال الله -تعالى- لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه: (وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء:74)، وكانت أكثر يمينه: لا ومقلب القلوب" (انتهى من بدائع التفسير).

ولا شك أن إبراز العجز والفقر والانكسار والتبرؤ مِن الحول والقوة لهو مِن أكبر أسباب إجابه الدعاء، ألم تسمع لدعاء أيوب -عليه السلام-، قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:٨٣-٨٤)، وإلى دعاء زكريا -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم:4)، وغير ذلك؛ فهذا هو حال الصالحين يبثوا فقرهم وضعفهم لله الغني القوي الكريم.

وقوله: (أصْبُ إلَيْهِنَّ): يعني: أمِلْ إليهن، وأتابعهن على ما يُرِدن مني ويهوَيْن، قاله الطبري -رحمه الله- بتفسيره.

وقوله: (وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ): قال القرطبي -رحمه الله-: "أَيْ مِمَّنْ يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، أَوْ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْجُهَّالِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ وَالذَّمِّ لِصَاحِبِهِ".

قلتُ: ولم يعذر نفسه -عليه السلام- مع كل هذه المغريات، وكذا التهديدات فنسب لنفسه الجهل واستحقاق الذم مع ما هو فيه؛ فكيف بمَن يذهب لأماكن المنكرات برجليه، ويفتح عينه على مواقع الفحش والرذيلة ثم بعد ذلك يزعم أنه معذور في الوقوع في الفواحش وعدم غض بصره، فلا شك أن فاعل ذلك يحتاج إلى وقفة صدق ومصارحة، وكذا مجاهدة مع النفس ولا يستسلم لحبال الشيطان وخديعته له.  

فلما لجأ -عليه السلام- إلى مولاه وأظهر له فقره وضعفه، ما كان مِن الرب الكريم إلا أن استجاب له كما قال -تعالى-: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف:34)، (فَاسْتَجَابَ): بِفاءِ التَّعْقِيبِ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ عَجَّلَ إجابَةَ دُعائِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: (وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ). واسْتَجابَ: مُبالَغَةٌ في أجابَ، قاله ابن عاشور في التحرير والتنوير.

ثم علل -تعالى- سبب إجابته لعبده الكريم، فقال: (إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ).

قال ابن عاشور: "وجُمْلَةُ: (إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ) في مَوْضِعِ العِلَّةِ لِـ(اسْتَجابَ) المَعْطُوفِ بِفاءِ التَّعْقِيبِ، أيْ أجابَ دُعاءَهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ؛ لِأنَّهُ سَرِيعُ الإجابَةِ، وعَلِيمٌ بِالضَّمائِرِ الخالِصَةِ".

وكذا انظر إلى هذه الخصوصية في الدعاء مِن يوسف بقوله: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ)، وانظر إلى قول سيده ومولاه: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ)، مع أن الله رب كل شي، ولكن هذا إشعار منه -سبحانه- بمزيد عنايته ولطفه ومنته على أنبيائه وعباده الصالحين، وأنه -تعالى- أكرم مِن يُرجى، وأنه -تعالى- شكور منان كريم.

وفي ختام هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين الكريمين: بشارة لأهل الحاجات وأهل البلاء أن ربكم سميع بكم، عليم بأحوالكم، لا يخفى عليه شي وهو قريب مجيب، فاصدقوا وأخلصوا مع ربكم وأحسنوا الظن به.

وصلى الله وسلم وبارك على محمدٍ، وعلى آله وصحبه.