وقفات مع المتحدث باسم الجبهات "القطبية" و"التكفيرية"

  • 647

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيبدو أن الدكتور "خالد سعيد" لم يكفه أنه كان يشغل وظيفة المتحدث باسم "الجبهة القطبية" المسمَّاة زورًا: بـ"الجبهة السلفية!"، بل انبرى ليكون المدافِع والمحامي عن كافة التيارات القطبية والتكفيرية بدءًا بـ"سيد" و"محمد قطب"، ومرورًا بـ"شكري مصطفي" و"عبد المجيد الشاذلي"، وانتهاءً بـ"حازم أبو إسماعيل، وفي القلب منه الدفاع المستميت عن الوجه القطبي لجماعة الإخوان.

و"الجبهة السلفية" التي يتحدث الدكتور "خالد" باسمها هي كيان حديث النشأة، وهي جزء مِن التيار القطبي، حتى وإن زعمت في تعريف حركتها أنها جزءٌ مِن التيار السلفي العام؛ ولكن هذا الادعاء فرع على محاولة القطبيين تسويق أنفسهم تحت مسمَّى: "السلفية".

ويظهر هذا الأمر جليًّا مِن خلال معرفة الرموز الفكرية التي تعتز الجبهة بهم وترجع إليهم؛ فقد ذكر موقع "الجبهة السلفية" ما يلي: "هناك شيوخ في واقعنا المصري قد انتفعنا بهم ووافقناهم أكثر مِن غيرهم، وإن لم نلزم كل أقوال واحد منهم بعينه، ولم يُلزمنا أحدهم بذلك، أشهرهم: الشيخ رفاعي سرور -رحمه الله-، والشيخ حازم أبو إسماعيل -فك الله أسره-، والشيخ د.محمد عبد المقصود -حفظه الله-، والشيخ د.هشام عقدة -حفظه الله-".

أما موقفهم مِن "السلفية" بصفة عامة "ومِن الدعوة السلفية بصفة خاصة": فهو موقف شديد السلبية، فعادة ما يصف هؤلاء الرموز السلفية بأوصاف ذميمةٍ، مثل: "المنبطحون - المنافقون - العملاء - ... !"؛ حتى إن مذيع قناة الجزيرة عندما سَأل الدكتور خالد عن الفرق بين الجبهة السلفية والدعوة السلفية، قال له بالحرف الواحد: "هو كالفرق بين العميل والشريف!".

وبالتالي: فلا غرابة أن نرى مقالًا متهورًا مشحونًا بالعصبية والتشنج، يزعم فيه الدكتور خالد أنه يرد على مقالة فضيلة الشيخ الدكتور "ياسر برهامي" التي ألقي فيها بجزءٍ مِن شهادته عن كثيرٍ مِن الأحداث والوقائع التي مرَّت بها الأمة خلال الفترة السابقة.

والدكتور ياسر برهامي -حفظه الله- هو وغيره مِن شيوخ الدعوة السلفية شهود على العصر، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، بل إن ما لديهم مِن شهادات موثَّقة عن الأحداث منذ 25 يناير وحتى الآن، تكفي لتأريخ مكتمل الأركان عن تلك الفترة، ونرجو مِن الله أن ييسر خروج مثل هذا العمل المتكامل الذي يوضِّح كثيرًا مِن الحقائق، ويكشف عن كواليس الأحداث، فإذا كان هذا الأمر يزعج الدكتور خالد أو غيره، فليرد على الحقائق بحقائق مثلها، وليناقش بالدليل والحجة والبرهان، بدلًا مِن أن يقوم كلامه على الأكاذيب والمغالطات، والادعاءات المرسلة!

وليسمح لي الدكتور خالد أن أبدأ معه الرد على مقالته، بمواجهة صريحة تتعلق بآخر لقاءٍ له على قناة الجزيرة، فقد ظهر خالد سعيد عبر شاشة قناة الجزيرة القطرية بعد هروبه من مصر إلى تركيا، وكان محور الحديث يدور حول ما يُعرف بـ"انتفاضة الشباب المسلم" في 28 نوفمبر 2014م، وبعض القضايا الأخرى.

والذي أريد أن أتوقف أمامه مِن الحوار هو أمران:

الأول: يتعلق بموقفه مِن جماعة الإخوان.

والثاني: موقفه من أجهزة الأمن المصرية.

"خالد سعيد" يتهم قيادات داخل جماعة الإخوان بالخيانة والعمالة:  

هاجم خالد في حواره جماعة الإخوان ونسب إليها إفشال التظاهرات في يوم "انتفاضة الشباب المسلم"؛ لأنها كانت هي التي ستبدأ الحدث على الأرض في منطقة محددة مِن القاهرة الكبرى، وكشف عن وقوع خيانة مِن جانب جماعة الإخوان للجبهة السلفية، حيث قامت الجماعة بإعلان انسحابها من المظاهرات، لافتًا إلى أن الخيانة جاءت مِن بعض قيادات الجماعة التي كان بيدها القرار.

وقال: "على الرغم مِن أن هذه القيادات كانت قد اتفقت معنا على كل شيء؛ إلا أنهم قاموا بإجهاض الحدث، وأعلنوا انسحابهم من خلال بيانٍ يخذلوننا فيه مساء يوم الخميس، علمًا بأن التظاهرات كانت يوم الجمعة... "، وقال: "إن هذه الخيانة من هذه القيادات داخل الجماعة ربما تكون بالاتفاق مع النظام!".

وأشار خالد إلى أنه في نهاية عام 2014م، انسحبت الجبهة مما يسمَّى: بـ"تحالف دعم الشرعية"، مؤكِّدًا أن الانسحاب منه له أسباب كثيرة، وجاء بعد انسحاب حزب الوسط والجماعة الإسلامية، واقتصر التحالف على جماعة الإخوان وعدد من الشخصيات الشكلية التي لا توجد لها كيانات تدعمها.

وبالطبع هناك أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن بمجرد قراءة هذا الكلام أو سماعه، ولكن السؤال الأهم: إذا كان الدكتور خالد يتهم قيادات الجماعة صراحة بالخيانة والتعاون مع الأمن؛ فما الذي استنكره إذًا مِن كلام الشيخ "ياسر برهامي" عن جماعة الإخوان، والرجل لم يتهمهم في دين أو أمانة، ولم يلوث لسانه بسبٍّ أو شتم أو إساءة -كما فعل خالد-، بل لم يزد على التوصيف العلمي لواقعهم من خلال ما ظهر مِن بياناتهم، وتصريحات قادتهم، والقنوات التابعة لهم التي تطفح بكل أنواع القاذورات الأخلاقية والسلوكية، فضلًا عن الحوارات المباشرة مع كبار قادتهم ومسئوليهم، وبالإضافة إلى التتبع التاريخي الدقيق لموقف جماعة الإخوان من التكفير والعنف منذ النشأة وحتى الآن؟!

أمَّا أن "الدعوة السلفية" كانت تتسلم مساجد جماعة الإخوان من الأمن في كل المحافظات! فهذا كذب أقرع واتهام باطل، وأتحدى أن يأتي الدكتور خالد بمثالٍ واحدٍ فقط يؤيد كلامه.

أما عن فترة التسعينيات التي يصوِّرها خالد على أنها مرحلة الصداقة بين الدعوة السلفية والأمن، لدرجة أنهم يأخذون المساجد من الإخوان ويعطونها للدعوة، فلعل الدكتور خالد يجهل أن الدعوة السلفية لُفقت لها عبر تاريخها ثلاث قضايا كبرى، أحد هذه القضايا كانت في عام 94، وعلى إثرها تم توقيف جميع أنشطة الدعوة!

أما أعجب العجب: فهو أن يستدل الدكتور خالد بعداء الدعوة السلفية لجماعة الإخوان بأنهم ألقوا الشيخ ياسر برهامي خارج المسجد في واقعة مسجد كلية الطب الشهيرة!

تخيل هم مَن ألقوه وهم مَن اعتدوا عليه، ومع ذلك يتهم الدعوة أنها هي التي تحاد الإخوان وتنافسهم!

وثالث هذه الأعاجيب -وليس آخرها-: أنه قال في حواره مع قناة الجزيرة ما يلي: "لقد دُعيت أربع مرات لمقابلة الدكتور محمد مرسي مع آخرين مِن ممثلي الكيانات الإسلامية، ولكني كنت أرفض في كل مرة لاعتراضي على سياسة الإخوان وطريقتهم! ولكن في المرة الرابعة ذهبت وكانت في يوم 2-6-2013م (أي قبل أحداث 3-7 بشهر واحد فقط)، وقال: إن هذا الاجتماع ضم 50 قيادة إسلامية، وتم إعطائي الكلمة لمدة 5 دقائق تمت مقاطعتي فيها 4 مرات! وقد قلتُ لهم بالحرف الواحد: هناك كارثة ومصيبة في 30-6 القادم، وأنه لابد لنا أن نتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ثم قال: ولكن للأسف لم يستمع لنا أحد!".

فإذا كان هذا هو موقف الجبهة من جماعة الإخوان، وإذا كانت هذه هي رؤيتها للأحداث؛ فبأي وجه دفعت الشباب للنزول بعد ذلك في الفاعليات الثورية المختلفة، وأشهرها ما سمته: "انتفاضة الشباب المسلم"؟! وبأي حق تريد أن تعيد الحكم لجماعة فشلت فيه يوم أن كان في يدها؟!

وسؤال خاص للدكتور خالد: بمَ يسمي طريقة التعامل التي عُومل بها مِن قِبَل الجماعة (كلمة لم تتعدَ الخمس دقائق - مقاطعة في كل دقيقة تقريبًا - تكبُّر عن سماع النصيحة مِن أقرب الأقربين)، أتمنى أن يمتلك الدكتور خالد شجاعة الرد حتى نتعلم منه كيف يكون التوصيف الدقيق لجماعة الإخوان ما دام أنه أغضبه التوصيف المهذب والراقي الذي وصف به الشيخ ياسر جماعة الإخوان.

الجبهة السلفية تتفاوض مع النظام المصري عبر شخصية أمنية كبيرة:  

سأل المذيع أحمد طه خالد سعيد فقال له: "هناك أنباء تقول: إن النظام المصري تواصل معكم مِن أجل وقف الانتفاضة -انتفاضة الشباب المسلم-، فما صحة هذا الكلام؟!

فابتسم خالد وقال له: البعض يروِّج أكاذيب حول هذه الواقعة، وأنا سأذكر الأمر بكل وضوح: هناك شخصية أمنية كبيرة جدًّا داخل النظام تواصلت معنا عبر وسيط من الخارج، وعرضوا علينا إعلان وقف مظاهرات انتفاضة الشباب المسلم في مقابل الإفراج عن المعتقلين من الجبهة السلفية.

فقال له المذيع: وماذا صنعتم؟

قال له: قبلنا التفاوض، ولكن قلنا شروطنا كما يلي: إطلاق سراح المعتقلين من الجبهة السلفية؛ بالإضافة إلى إطلاق سراح 56 فتاة معتقلة، وكذلك اشترطنا إطلاق سراح الدكتور محمد علي بشر؛ لأنه لم يتم اعتقاله إلا بسبب دوره في إقناع جماعة الإخوان بالمشاركة في الانتفاضة.

وكان رد القيادة الأمنية: أن الشرط الأول مجاب، والثاني مجاب، ولكن وفق جدول زمني لتوفيق أوضاعهم لأن بعضهن كان قد صدر في حقهن أحكام قضائية بالفعل، أما الثالث فلا يمكن أن يتم بحالٍ مِن الأحوال، ثم اختلفوا كذلك حول موعد تنفيذ هذه الشروط، وقال: ثم فشلت التفاوضات وتمت الانتفاضة، ولكن الذي أفشلها هم جماعة الإخوان كما ذكرتُ".

مرة أخرى: هناك أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن بمجرد سماع هذا الكلام، ولكن السؤال الأهم: بمَ يسمي الدكتور خالد هذا التواصل مع النظام المصري "الانقلابية المجرمة -على حد تعبيره-"؟! وبمَ يسمي الجلوس والتفاوض مع شخصية أمنية كبيرة جدًّا؟! وهل هذا يعد تعاونًا مع الأمن وعمالة له وخيانة للقضية أم ماذا؟! وهل التواصل مع الأجهزة الأمنية مباح ومشروع لهم فقط، أما غيرهم فتواصله يقع تحت بند الخيانة والعمالة والانبطاح؟!

وأخيرًا قال الدكتور خالد للمذيع: "أنا لم يكن لدي رغبة في أن أفصح عن هذا الأمر؛ إلا أن سؤالك هو الذي دفعني لبيان الحقيقة، وأنا أتكلم الآن لأن التفاوض فشل، أما على فرض نجاحه فقد كان الشرط هو عدم إعلان الأمر. وعندما سأله المذيع عن اسم الشخصية الأمنية، قال له: لا يمكن أن أذكر اسمه؛ لأنه شخصية أمنية كبيرة جدًّا!".

فيا تُرى كم مِن شابٍ ألقى بنفسه في ساحات الوغى ثقة في مثل هؤلاء، وهم في الحقيقة يستعملون دماءهم ورقة مِن أجل تحسين شروط التفاوض؟!

وكم مِن شاب مخدوع فقد الثقة في علماء الأمة وشيوخها الأثبات تصديقًا لكلام أمثال هؤلاء؛ أن الشيوخ خونة وعملاء؛ لأنهم يجلسون للتفاوض مع الأمن، ثم تتكشف الحقيقة أنهم يجلسون أيضًا مع الأمن، وربما تدور شروطهم حول مصالحهم الخاصة الضيقة لا مصالح الأمة العامة؟!

وكم مِن شباب وثقوا فيهم أنهم أصحاب العقل والحنكة والدراية السياسية، ثم تكشف الأحداث أنهم أسرع الناس تهورًا وخفة، وأكثرهم تضييعًا لمصالح الأمة، فلا هم الذين انتصروا في المواجهة والصمود، ولا هم الذين نجحوا في الحوار والمفاوضات! إنما هي فرص تضيع، وأعمار تُهدر، ودعوات تتأخر، وشباب يموت أو يفر أو يُلقى بالسنوات خلف القضبان!

هذا هو ما قدَّمه خالد سعيد للأمة، هو وأمثاله ممَن ضيعوا الأمانة، واعتلوا منابر لم يكن لهم أن يتبوءوها، وإنما هي الحماسة الفارغة، والاندفاع الأهوج الذي يجر على الدعوة والأمة والمجتمع خسائر ونكبات يسعى المخلصون من العلماء والدعاة لعلاج آثارها المدمرة، ومع ذلك لا يتركهم أمثال هؤلاء السفهاء، بل يقذفونهم بالحجارة ويلقون عليهم بالقاذورات، فلم يحسنوا صنعًا في البداية، ولم يوفقوا إلى حُسن التصرف في النهاية! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أمثلة مِن مغالطات خالد سعيد في مقاله الأخير:

أولًا:

دفاعه عن "شكري مصطفى" بأنه لم يكن تلميذًا لسيد قطب! والحقيقة التاريخية التي لا مجال لتحريفها أن الأستاذ سيد قطب يُعد الأب الروحي لعددٍ مِن التيارات الفكرية والجماعات التنظيمية كما يلي:  

1- القطبية الإخوانية: وهم مجموعة إخوان 65 الذين تربوا مع سيد داخل السجن؛ بالإضافة إلى باقي أعضاء التنظيم خارج السجن، وقد كانوا هم الجانب الأظهر والأقوى في الجماعة في هذا الوقت، خصوصًا وأن الجماعة أصبحت منحلة رسميًّا، فصار هذا التنظيم القطبي هو البديل، والظاهر أن هذا التنظيم هو الذي يسيطر على جماعة الإخوان الآن.

2- التيار القطبي: وهو شق آخر مِن تلاميذ ومحبي سيد قطب، على رأسهم: "محمد قطب" نفسه، الذي لم يكن منتميًا تنظيميًّا إلى الإخوان، وهذا التيار يضم بداخله كيانات تنظيمية، مثل: "جماعة التوقف والتبيُّن"، ويضم أيضًا أشخاصًا منفردين يغلب على ظاهرهم وكلامهم السمت السلفي؛ إلا أنه عند التدقيق في القضايا الخلافية تجد عقيدتهم فيها قطبية، بالإضافة إلى أن حنينهم إلى الإخوان أقوى مِن نسبتهم للسلفية.

قال الدكتور "يوسف القرضاوي" في توصيف هذا التيار: "وقد رأينا تجمعات في أقطار مختلفة يسمون: (القطبيين)، ويتبنون فكرة التكفير، وقد رأيت مِن آثار ذلك: مَن سألوني عن الصلاة في البيوت وترك المساجد باعتبارها معابد الجاهلية! وهو مما فهموه مِن الظلال في تفسير قوله -تعالى-: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (يونس:87)، وقد رددت عليهم في الجزء الأول مِن كتابي: (فتاوى معاصرة)".

3- تيار التكفير الصريح: ورغم أنه خرج مِن عباءة سيد؛ إلا أنه صارت له مرجعيات وتصورات مختلفة عن فكر سيد، أو بمعنى آخر لم يعودوا محتاجين لها ولتأويلاتها، مثل: جماعة "شكري مصطفى".

قال الدكتور "يوسف القرضاوي": "ومَن قرأ أدبيات جماعات التكفير يجد آثار هذا الفكر -فكر سيد قطب- وعباراته المعروفة في صلب هذا الفكر، وإن لم يصرِّحوا بالنقل عنه، حتى الذين لم يأخذوا فكرة التكفير لم تخطئهم رشحات مِن تأثير هذا الفكر الثائر الرافض على مفاهيمهم وعلاقاتهم بالآخر، ورفض الانفتاح والحوار، والمفاصلة الشعورية مع المجتمع، وإعلان الحرب على العالم كله حتى المسالمين! والسخرية بدعاة الاجتهاد وتطوير الفقه، وغير ذلك، واتهام دعاة التسامح والموسعين بالهزيمة النفسية والسذاجة الفكرية، إلخ".

ويقول أيضًا: "ومِن أبرز هذه الأفكار، وأشدها خطرًا، وأبعدها أثرًا: فكرة تكفير المسلمين الموجودين في العالم اليوم إلا فئة قليلة منهم! أما مئات الملايين في العالم الإسلامي -أو العالم الذي كان إسلاميًّا حسب تعبيره في بعض المواطن- الذين يظنون أنفسهم (مسلمين) أو يحبون أن يكونوا (مسلمين)، فهم ليسوا مِن الإسلام في شيء، وإن كانوا يشهدون أن (لا إله إلا الله)؛ لأنهم يفهمونها على غير مدلولها الحقيقي الذي لا معنى لها -في نظره- غيره، وهو الذي يتضمن معنى (الحاكمية).

 بل لا يغني عنهم أن يكونوا من المصلين والصائمين والمزكين وحجاج بيت الله الحرام! وهو هنا لا يتحدث عن الحكام وحواشيهم، كما يزعم بعض الناس، بل يتحدث عن (مئات الملايين) من المسلمين، أو ممَن يظنون أنفسهم مسلمين، والحكام ومَن حولهم إنما هم ألوف مِن الناس، لا ملايين ولا عشرات الملايين.

هذه الفكرة الخطيرة التي فتحت أبواب التكفير والعنف، واستباحة الدماء والأموال من المسلمين، وقامت عليها -في أوطاننا الإسلامية- جماعات تقاتِل قومها، وتحارب أهل وطنها؛ هي الجديرة بأن يقف العلماء والدعاء في وجهها، ويتصدوا لبيان ما فيها مِن انحرافٍ عن الأحكام الشرعية المقررة، ويبينوا بطلانها بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مسترشدين بأقوال الأئمة والراسخين مِن علماء السلف والخلفاء".

4- جماعات الجهاد واستخدام السلاح: وهي تتلمذت عادة على كتب سيد، كأحد المصادر الحماسية التي توفِّر لهم إشباعًا جيدًا في المواجهة مع الطواغيت وغيرها، وإن كانت لا تعتمد في تنظيراتها الفكرية على كتب سيد وحده؛ لأن هناك تأصيلات أكثر تفصيلًا في المسائل المرتبطة بالجهاد ارتباطًا وثيقًا.

ثانيًا:

ادعاؤه أن الدكتور "محمود غزلان" والمهندس "خيرت الشاطر" كانا ضمن أعضاء الجماعة الإسلامية؛ فهذا مِن الجرأة في الكذب؛ لأن المقصود بمجموعة الجماعة الإسلامية هي المجموعة التي انضمت إلى جماعة الإخوان بعد خروج كبار قادة الإخوان مِن السجون في السبعينيات.

أما الدكتور محمود غزلان -وهو زوج أخت خيرت الشاطر-، وكذلك المهندس خيرت الشاطر فلم يكونا مِن كبار الإخوان في ذلك الوقت، ولكنهما تربيا على أيديهم ولم يكونا يومًا ضمن المجموعة المعروفة بمجموعة الجماعة الإسلامية التي كانت تضم: "عبد المنعم أبو الفتوح - عصام العريان - حامد الدفراوي - خالد داود - إبراهيم الزعفراني"، وغيرهم، وقد ترك معظمهم الجماعة.  

وقد جاء في مقال: "العلاقة غير المعلنة لقيادات الإخوان" للدكتور إبراهيم الزعفراني قوله: "د.حبيب، وم. خيرت الشاطر، ود.محمود غزلان، ود.محمود حسين لم يكونوا محسوبين على جيل السبعينيات مع أنهم التحقوا بجماعة الإخوان في السبعينيات؛ لأنهم لم يكونوا قيادات في الجماعة الإسلامية بالجامعة قبل انضمامهم".

ثالثًا:

ادعاؤه عدم وجود علاقة بين التنظيم الخاص و"سيد قطب" و"مصطفى مشهور": "الحقيقة التي يتعمد خالد سعيد إخفاءها: أن التنظيم الخاص الذي أسسه الأستاذ حسن البنا في الأربعينيات لم ينحل بمقتل البنا، بل ظل كما هو خلال فترة طويلة من عمر قيادة الهضيبي للجماعة، وقد أعاد سيد قطب بعث هذا التنظيم مِن جديدٍ، وكان هو رأس الحربة في أحداث 65، ودخل قادة هذه المجموعة السجون ولم يتراجعوا عن أفكارهم، ولم يتنازلوا عن حلم بعث التنظيم مِن جديدٍ، وهذا هو ما تم فعليًّا بعد خروجهم من السجون.

وتعد شهادة الدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح" مِن الشهادات المهمة التي تكشف عن طبيعة الأعضاء الخارجين من السجون وقتها، والذين صاروا بعد ذلك قادة العمل الإخواني في المحافظات والمدن.

قال الدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح": "وهكذا بدأ التنظيم يتمدد في أنحاء القطر، وبدأت قيادة الإخوان تصعد إلى قمته وتسيطر عليه... وكان معظم هذه القيادات مِن الذين تربوا في النظام الخاص، وكانوا هم الذين يتصلون بالخريجين، وكانوا يغطون معظم محافظات الجمهورية تقريبًا".

وبالتالي: فبعد خروج الإخوان مِن السجن، سافر جزءٌ منهم خارج البلاد للعمل في بعض الدول العربية، والجزء الآخر بقي داخل البلاد كما هو، وهم الذين قاموا باختراق الحركة الطلابية واستقطبوا منها بعض رموزها؛ هؤلاء الرموز هم الذين تولوا الشق الظاهري من أعمال الجماعة طوال أكثر مِن ثلاثة عقود متتالية.

وقد حرص التيار القطبي على إخفاء معالمه مِن الوجود العام تقريبًا، وصار هذا الجيل الجديد هو الوجه الأكثر حضورًا وبروزًا في الساحة بكل أنشطتها: الانتخابية والنقابية، والدعوية، والمجتمعية.

يبقى اللغز الأشد غموضًا في هذا التاريخ: أين ذهب التيار القطبي طوال هذه السنين؟! وما أنشطته وأعماله؟! وماذا عن الأجيال الإخوانية التي انضمت ونشأت داخل الجماعة طوال هذه الفترة: ما ميولها؟ وما طبيعة مناهجها الفكرية إذا كانت أعمالها الظاهرة تكاد تنحصر في ممارسة السياسة وممارسة الدعوة؟!

هذا السؤال أجاب عليه الدكتور "عصام العريان" في مقال له في غاية الأهمية والخطورة، وهو مقال يفكك كثيرًا مِن الألغاز؛ حيث قام الدكتور "عصام العريان" بسرد تفاصيل تجربته السياسية مع "مأمون الهضيبي" الذي وصفها بأنها قريبة أو شبيهة مِن تجربة "التلمساني"، في مقالٍ بعنوان: "الهضيبي رجل المواقف الحاسمة"، فقال: "... وعندما استأذنت الأستاذ "عمر التلمساني" في استضافة "الهضيبي" في لقاءات الشباب قال لي: "إن له مهمة أخرى"، وكان يريده بجواره كمستشارٍ يعينه في الشأن العام، حيث انشغل "الهضيبي" في إعادة ترتيب وجود الجماعة السياسي، ومحاولة الخروج من القيود القانونية والمتابعات الأمنية إلى الفضاء العام؛ هذا الأمر الذي لم يكن يحسنه الكثير من قيادات الإخوان، الذين انصرفوا لعملية بناء الجماعة، وتمتين التنظيم، وتوريث المنهج".

وبالتالي فالجماعة فور خروجها من السجن تحركت في مسارين متوازيين:

المسار الأول: أشرف عليه ما سماهم العريان: "شيوخ الجماعة"، وهم التيار القطبي الخالص داخل الجماعة، وهؤلاء تركز اهتمامهم على إعادة بناء الجماعة وتمتين المنهج.

والمسار الثاني: هو ما ظهرت في مقدمته مجموعة جيل السبعينيات لتشغل مساحة العمل السياسي والنقابي والخدمي، وكان المشرف عليهم في كل المراحل الزمنية للعمل وجوهًا مقبولة لدى السلطة والمجتمع لبُعدها عن ممارسة العنف أو التنظير له، مثل: الأستاذ "عمر التلمساني، والأستاذ "مأمون الهضيبي".

ويؤكِّد على هذا المعنى الدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح" فيقول: "في الفترة التي تعرفنا فيها على الإخوان كان في الجماعة تياران رئيسيان: التيار الأول: تمثله مجموعة النظام الخاص، وامتداداته في تنظيم 1965م، الذي كان قد ارتبط بالشهيد سيد قطب؛ إضافة إلى مجموعةٍ مِن الإخوان بدأت مع الإخوان بعد عام 1954م مع بداية المحنة. أما التيار الثاني: فهو الأكثر تأثرًا بمنهج الأستاذ الإمام حسن البنا الذي كان إصلاحيًّا معتدلًا متدرجًا سلميًّا، غير مؤمن بالعنف كما هو حال منهج التيار الأول!".

والخلاصة التي نود أن نسديها إلى الدكتور خالد: إن الأستاذ مصطفى مشهور لم يكن مِن معتقلي 65؛ لأن وجوده يسبق هذا الجيل، فهو مِن الرعيل الأول الذي عاصر البنا، ولكن في المقابل كان مِن قيادات قضية 65 المحكوم عليهم بالسجن: الدكتور محمد بديع، والدكتور محمود عزت، والأستاذ عبد المجيد الشاذلي، وهؤلاء أو بعضهم كانوا أساتذة كلٍّ مِن: محمود غزلان، وخيرت الشاطر.   

وأظن أن مما يغيب عن علم الدكتور خالد: أن دور الأستاذ "مصطفى مشهور" لم يخفت طوال فترة حياته، فليس هناك محل لتعجبه لربط الشيخ ياسر بين مصطفى مشهور والتيار القطبي داخل الجماعة، ومما يعضد ذلك: أنك إذا طالعت ترجمة الأستاذ مصطفي مشهور على موقع الإخوان: "ويكيبديا"؛ فسوف تجد هذه الجملة العجيبة: "لقد كان الشيخ مصطفى يحمل أعباء المرشد ومكتب الإرشاد قبل أن يصبح هو المرشد، فقد كان المرشد الفعلي أيام سلفيه: الشيخ أبي النصر، والشيخ عمر التلمساني، وكان يتحمل المسئولية كاملة عن تلك الفترة، وخاصة بعد أن غادر مصر إلى الكويت فألمانيا، ثم بعد تسوية وضعه، وعودته إلى بلاده.

وعندما تسلم منصب الإرشاد، تابع مخططه الذي رسمه للجماعة مع أعضاء مكتب الإرشاد، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب، وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات رائعة".

وذكر الموقع أيضًا: "وبعد وفاة المرشد الأستاذ التلمساني -رحمه الله تعالى- وبتسويةٍ ما مع المسئولين في مصر، قادها الأستاذ الكبير "صلاح شادي"، تغمده الله بفيض رحماته ورضوانه، عاد الشيخ مصطفى إلى القاهرة عام (1986)، وتسلم منصب نائب المرشد العام (كان المرشد الأستاذ محمد حامد أبو النصر -رحمه الله تعالى-، وكان الساعد الأيمن والأيسر في ميدان الدعوة، ومعه ثلة طيبة مِن إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد، بل إن بعض المراقبين والمطلعين يعتقدون أنه كان القائد الفعلي للجماعة منذ رحيل المرشد حسن الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة عام (1973) وحتى وفاته، أي طوال ثلاثة عقود".

رابعًا: ادعاؤه بأن "عبد المجيد الشاذلي" بريء مِن التكفير ومِن بدعة التوقف والتبيُّن: وقد أتى "خالد سعيد" في هذا البند بالعجائب التي تثير شفقتنا عليه مِن شدة الخلط والعبثية التي يتعامل بها مع الأمور، وحتى لا نغضب الدكتور خالد فإننا لن نذهب في الرد على هذه الجزئية بعيدًا عن المصادر التي يرتضيها هو.

ورد في ترجمة الأستاذ "عبد المجيد الشاذلي" على موقعه الرسمي ما يلي: "وُلد الأستاذ عبد المجيد الشاذلي بمحافظة الغربية عام 1938م، وحصل على بكالوريوس العلوم قسم الكيمياء مِن جامعة الإسكندرية، وعمل بشركة الحرير في كفر الدوار، حتى تاريخ إحالته للمعاش، وقد التحق الشاذلي بالإخوان منذ خمسينيات القرن الماضي حين كان شابًا يافعًا، وقد كان أستاذه المباشر ابن بلدته بسيون الأستاذ محمد يوسف هواش، والذي كان رفيق درب سيد قطب حيث عايشه لسنواتٍ طويلةٍ أثناء فترة سجنه حتى الحكم عليهما بالإعدام عام 1966م.

وتم اعتقاله على خلفية قضية تنظيم 65 بما أنه كان أحد قادة الصف الثاني للتنظيم عن محافظة الإسكندرية، حيث "كان الصف الثاني مِن القيادة في القاهرة والوجه البحري مكونًا مِن: فاروق المنشاوي (القاهرة) - الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد (طنطا) - شعبان الشناوي (المنصورة) - عبد المجيد الشاذلي (الإسكندرية)".

قضى الشاذلي في السجن عشر سنوات، وتم الإفراج عنه في عام 1975م، وبعد خروجه مِن السجن أنشأ مع آخرين جماعة التوقف والتبيُّن والتي سمَّاها: "دعوة أهل السُّنة والجماعة على طريق إحياء الأمة" لتكون امتدادًا للمدرسة القطبية وراعية لها.

جاء في تعريف هذه الدعوة على موقعها الرسمي ما يلي: "وقد واجهت دعوة أهل السُّنة والجماعة التضييق الشديد ثم السجن والملاحقة لأفرادها خصوصًا بعد مقتل السادات، وتم الزج بالشيخ الشاذلي وبغيره مِن الإسلاميين في السجن عام 1981م، ثم أخذت الدعوة وضعًا سريًّا لشدة بطش النظام المصري بأفرادها.

وعاش الشيخ "الشاذلي" في منزله بالإسكندرية بحالةٍ مراقبةٍ وتضييق دائم؛ لخطر فكره ودعوته على نظام الحكم بمصر، الذي لا يراه الشيخ نظامًا شرعيًّا، ويدعو في كتبه ومحاضراته إلى حشد الأمة لإسقاط هذه الأنظمة العلمانية، وفي عام 2011م اندلعت ثورة الغضب المصرية فأتيحت الفرصة لإعادة ترتيب أوضاع الدعوة وإعلانها مجددًا بعد أن خفيت لعقودٍ عن الناس".

وقد لازم عبد المجيد سيدَ قطب وتتلمذ على كتبه، وكان يعتبر مِن أخص تلامذته، بل يعده القطبيون هو المنظِّر الشرعي لفكر سيد قطب.

ومما يدل على ذلك ما شهد به أحد رموز هذا الفكر في مصر وهو الشيخ "رفاعي سرور"، حيث يقول في ترجمته للشاذلي: "يمثِّل الشيخ عبد المجيد اتجاهًا منهجيًّا أساسيًّا في واقع الفكر الإسلامي المعاصِر، باعتباره المؤصل الفقهي والشرعي لفكر سيد قطب، حتى تكوَّنت بجميع كتابات هذا الاتجاه وحدة موضوعية واحدة، توزعت على كل العقول التي تحاول الوصول للحق كل بما يناسبه، ليكون هذا التأصيل هو المواجهة الفكرية الواقعية على الزعم القائل بأن كتابات سيد قطب مجرد كتابات أدبية، حيث لم يفهم القائلون بذلك أن سيد قطب كان يخاطب الناس بما يناسبهم ويؤثر فيهم، لتكون مهمة التأصيل الضرورية موكولة لكتابات التأصيل التي تعتبر كتابات الشيخ عبد المجيد نموذجًا كاملًا لها فتكتمل كل الشروط الشرعية للاتجاه الفكري الصحيح للدعوة".

لاحظ هنا: أن الشيخ رفاعي يتحدث عن اتجاهٍ منهجي واحد، له رابطة موضوعية واحدة، وذات مصدر محدد حتى وإن اختلفت طرق وأساليب الكتابة، وهو بذلك يؤكد على الوحدة المنهجية للتيار القطبي الذي ينتسب هو إليه، والذي يعد الشاذلي أحد أهم منظريه.

قال: "والبُعد الأساسي للتعريف المنهجي بالشيخ عبد المجيد الشاذلي هو تجربة 65، حيث كانت تلك التجربة هي البداية التاريخية للتصحيح الفكري والمنهجي للدعوة، كما كانت سندًا نفسيًّا لمَن أتى بعدها حيث علم شباب الدعوة الجدد بعد اكتشاف تنظيم 65 أن هناك مَن استطاع الوقوف أمام عبد الناصر".

ويُعد كتاب "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" أشهر كتب الشاذلي، وباكورة مؤلفاته، وبه اشتهر وعُرف، وقد شرع فيه منذ أن كان في السجن في عهد عبد الناصر، وأكمله بعد خروجه من السجن، وقد ذكر أنه استغرق في كتابته سبع سنوات، حيث وضع فيه خلاصة فكره، وحقيقة منهجه.

تكلم الشاذلي في الطبعة الثانية للكتاب عما سماه مفاتيح لفهم الكتاب، أوضح فيها قواعد لفهم ما طرحه، منها: الفرق بين حقيقة الإسلام وحكم الإسلام، كما ألحق بالباب ملحقًا مِن ثلاثة أجزاء، يتناول فيه نقولًا عن الفقهاء لبيان طرق إثبات حكم الإسلام كأمر مستقل عن بيان حقيقة الإسلام، وأن الأول أمر فقهي، وأما الحقيقة فهي أمر عقدي، وأوضح كذلك أمر "اللوث" وأنه مستعمل عند الفقهاء في عدة قضايا فقهية، وأن هذا ما قصده كحالات خاصة من حالات الكافر الأصلي لا كأمر عام.

يوضح "رفاعي سرور" الأهمية الفكرية لهذا الكتاب عندهم حتى إنه قرنه بالمعالم فقال: "وكان قد سبقها إلى الخروج -أي رسالة حد الإسلام- كتاب: "معالم في الطريق" للأستاذ سيد قطب، فكانت أوراق "المعالم" و"الحد" كقطرات اللبن للرضيع، حتى أصبح شباب الدعوة الجدد يرددون عبارات هذه الكتابات بثقة ويقين، يتعجب لها كل مَن يسمعهم وهم يرددونها، ويهمسون: مِن أين لهم هذا الكلام وهذا الفكر؟! ما هذا الاتجاه الذي يسعى بكل قوة للصدام مع كل النظم والسلطات الحاكمة؟! مَن هؤلاء الشباب؟! ما لهم لا يخافون؟! ولم يكن الناس يعلمون أنهم يقرأون: "معالم في الطريق" و"حد الإسلام"؛ ولذلك فهم لا يخافون".

ونحن بدورنا نتعجب كما تعجب الناس! نتعجب مِن هذه العقلية التي تفتخر بالصدام "مع كل النظم والسلطات الحاكمة"، وتقدم شباب التيار الإسلامي وقودًا لهذا الصراع الدموي، مستغلين حماستهم وعواطفهم الجياشة بدون حدود أو ضوابط.

وقد قدَّم عبد المجيد الشاذلي أطروحته الفكرية الشهيرة في قالب أصولي عبر كتابه: "حد الإسلام" الذي قسَّم فيه المجتمع إلى ثلاثة أقسام، ووضع حدًّا أدنى للإسلام لا يُعذر صاحبه فيه بالجهل، ولا تُقبل فيه دعوى الجهل، وهذا الحد هو (الحكم - الولاية - النسك).

وقد صار التقسيم الثلاثي للمجتمع: (مسلمين بلا شبهة - كفارًا بلا شبهة - طبقة متميعة)، هو الفكر المعتمد لدى التيار القطبي بوجه عام، اعتمادًا على تنظير الشاذلي في كتابه: "حدِّ الإسلام"، وتنظير محمد قطب في كتابيه: "واقعنا المعاصر"، و"مفاهيم ينبغي أن تصحح".

القسم الأول: مسلمون بلا شبهة:

وهو الشخص الذي ينطق بالشهادتين وهو فاهم لمعناها عامل بمقتضاها، وقد حصر الشاذلي هذا الفهم في ثلاث قضايا رئيسة هي: (الحكم - الولاية - النسك)، وفي الواقع: فإن فهم تفاصيل هذه القضايا لا ينطبق على كثير مِن أفراد الجماعات الإسلامية؛ فضلًا عن عموم الناس! بل إن تفاصيل هذه القضايا لا يحسنها كثيرٌ مِن المنتمين لهذه التيارات نفسها.

ولو طبقوا هذه القاعدة على أنفسهم لكفر معظمهم! فضلًا عن أن دراسة مثل هذه القضايا بتفاصيلها يستلزم شيئًا من الوقت ربما يستغرق سنوات، فهل الشخص الذي انضم إليهم حديثًا وهو يجهل هذه القضايا يكون في حكم الكافر حتى يتقنها أم أنهم سيتعاملون معه باعتبار ما سيكون؟!

القسم الثاني: كفار بلا شبهة:

الكافر بلا شبهة عندهم هو الكافر الأصلي الذي لم ينطق الشهادتين، بالإضافة إلى مَن نطقها، ولكن عنده خلل في قضية مِن القضايا الثلاث المشهورة: (الحكم - الولاية - النسك)، فهذه القضايا الثلاث عندهم بمنزلة المعلوم من الدين بالضرورة، وهم لا يعذرون فيها بالجهل، وهذا مؤداه كما ذكرنا تكفير معظم المجتمع فعلًا، وهو قريب في النتيجة من جماعة "شكري مصطفى"؛ إلا أن "شكري" لم يتعب نفسه كثيرًا في تعقيدات أصولية، وحكم على المجتمع كله بالردة! أما "عبد المجيد الشاذلي" فكما نرى ضيَّق دائرة التكفير شيئًا قليلًا عن طريق "فلتر" يظنه علميًّا أو هكذا يبدو، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.

القسم الثالث: طبقة متميعة لا يُحكم لها بإسلام ولا بكفر، بل يتوقف فيها:

وهو الشخص الذي لم يُتحقق مِن كونه مسلمًا بلا شبهة، وكذلك لم يُتبيَّن أنه كافر بلا شبهة، مع أنه قد ينطق بالشهادتين أمامهم، وقد يرونه يصلي أو يصوم أو يحج، ولكنهم يتوقفون في الحكم عليه حتى يظهر لهم أمره، وظهور أمره عن طريق اختبار في المسائل الثلاث: (الحكم - الولاية - النسك).

فإن اجتاز الاختبار صار مسلمًا بلا شبهة، ويتم التعامل معه كمسلم، وإن رسب في الاختبار؛ صار بذلك كافرًا بلا شبهة، وهو المتوقع مِن أغلب المجتمع.

وهذا القسم في الواقع هو التحسين الذي أدخله "عبد المجيد الشاذلي" على فكر "شكري مصطفى"، وهو تحسين صوري وشكلي فقط؛ لأنهم في الواقع يتعاملون مع أفراد القسم الثالث على أنهم في حكم الكفار حتى يتبين لهم أمرهم، ولكنهم لا يُظهرون هذا التكفير.

يقول الدكتور ياسر برهامي في معرض رده على الكتاب: "يهدف الكتاب إلى تأصيل بدعة تقسيم مَن ينطق كلمة التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وجعل ثبوت الإيمان باطنًا والإسلام ظاهرًا متوقفًا على معرفة ما يسميه حدًّا للإسلام وحقيقة الإيمان من معرفة (النسك - والولاية - والحكم)، ولا شك في وجوب إفراد الله بذلك، وأنها من التوحيد، ولكن البدعة في أنه لا يحكم بثبوت أصل الإيمان عند الله لمَن نطق بالشهادتين معتقدًا دين الإسلام حتى يستوفي ما جعله هو حدًّا للإسلام لا يثبت بدونه ظاهرًا.

والكتاب يدور حول هذه الفكرة وقد صرَّح بذلك في قوله: "يُحكم بالإسلام لمجرد التلفظ ما لم يقترن مع تلفظه ما يدل على بقائه على الشرك، أو مظاهرة المشركين، أو امتناعه عن قبول الحكم، ويفترض فيه ترك الشرك والتزام الشرائع. فإن اقترن مع التلفظ ما يدل دلالة قطعية على الشرك أو رفض الشرائع أو مظاهرة المشركين فلا عبرة بأقوالٍ كذبتها الأفعال، فلا يحكم بالإسلام مع هذه الحال، وإذا وجد لوث ظاهر يدخل شبهة على إرادته لمدلول الشهادتين أو كان في تلفظه ما يشكل فلا بد من التبين لموضع اللوث" اهـ.

أما ما ينقله عن موقف عبد المجيد الشاذلي مِن الفن والتمثيل والاختلاط والموسيقى سعيًا منه لنفي تهمة التكفير عنه، وإثباتًا لمرونة الرجل وسماحته؛ فهو مما يُضحك العقلاء!

وبعيدًا عن تصديق تلك الرواية أو تكذيبها، أو حتى تقييمها والحكم عليها، السؤال هنا ببساطة: أين نجد هذا الكلام في كتبه ومؤلفاته والرجل كان كثير التأليف والكتابة؟! أين نجد هذه الآراء في محاضراته ودروسه وموقعه الشخصي على الإنترنت به المئات مِن المواد الصوتية والمرئية؟! أين نجد ردوده على مَن أساء فهم كلامه مِن تلامذته -كما يعترف خالد- والرجل عاش طويلًا، وكتب عدة مؤلفات جديدة بعد الثورة لم يصوِّب ولم يرد ولم يخطئ؟!

لماذا لم يحاول تبسيط الكلام لبعض السلفيين الذين يعانون مِن ضعفٍ في علم الأصول، وعدم قدرة على فهم المسائل الأصولية حتى إنهم لا يعرفون الفرق بين المجمل والمفسّر؟! -هكذا يلمز خالد-، ولا أدري: ماذا يعني بالمفسر؟! ولعله يقصد المجمل والمفصل، المهم أنه كان مِن الأولى أن يراعي ضعف عقولنا، وقلة حيلتنا ويشرح لنا العقيدة بعباراتٍ سهلةٍ واضحةٍ كما جاءت على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة وسائر السلف.

ثم دعك مِن السلفيين "المتسعودين" الذين لا يُحسنون فهم مسائل الأصول -على حد تعبير خالد-، ماذا عن الشباب العادي الذي اعترف خالد أن طائفة منهم لم تفهم الكلام أصلًا حتى مِن تلامذته، وطائفة تورطت في أقوال غالية ومتشددة كما فهمت مِن كلام الشاذلي، ألا يستحق كل هذا التخبط الناشئ عن تفسير الكلام أن يبادر صاحب الكلام الأصلي، فيبين المبهم، ويفصِّل المجمل، ويفسِّر الغامض؟! أم أننا لا نستحق ذلك؟! أم أن هذا الغموض مطلوب ومقصود؟!

خامساً: ادعاؤه بأن مدرسة سيد قطب عقبة تاريخية في طريقنا، وأننا -الدعوة السلفية- نبغضه ونعاديه كما لم نبغض أحدًا قط!

في البداية أود أن أؤكِّد على أن موقفنا من سيد قطب أنه رجل له وعليه، ونحن نحب منه أشياء ونبغض منه أشياء، نحب منه غيرته على الدين، ودفاعه عن الشريعة أمام موجات التغريب والعلمنة، ونبغض منه عدم ضبطه لمسائل العقيدة واختلاط فهمه فيها، والتعبير عن ذلك بكلامٍ فاسدٍ أدَّى إلى ظهور المدارس التكفيرية المختلفة.

كما أن انتماءه إلى جماعة الإخوان شجَّعه على محاولة ممارسة العنف عمليًّا، فصار سيد قطب مسئولًا بدرجةٍ كبيرةٍ عن إنتاج جماعات التكفير والعنف والصدام، ونسأل الله له المغفرة والرحمة، أما أننا نبغضه كما لم نبغض أحدًا من قبل، فهذا كذب وتجني، لن يجد له خالد ما يعضده من كتابات أو محاضرات، بل على العكس سيجد الترحم عليه، وسؤال الله له المغفرة، فهل اطلع خالد على قلوبنا ليعرف أننا نبغضه كما لم نبغض أحدًا قط؟!

سادسًا: حديثه عن الأستاذ حازم أبو إسماعيل: يزعم خالد أن موقفنا مِن الأستاذ حازم مبني فقط على جلوس الشاذلي بجواره في مؤتمره الانتخابي، والحقيقة ليستْ كذلك؛ لأن مشايخ الدعوة السلفية جلسوا مع الأستاذ حازم عدة جلسات مطولة ليتعرفوا مِن خلالها على فكره ومنهجه وبرنامجه الانتخابي، عندما كان أحد مرشحي الرئاسة المحتملين، كما أن الأحداث التي شارك الأستاذ حازم في صناعتها تدل على طريقته الصدامية وتهوره واندفاعه، ولا أدل على ذلك مِن أحداث العباسية، وحصار وزارة الدفاع التي دعا إليها وحرَّض الشباب على دخولها بينما هو لم يحضر! وكذلك المظاهرات الشهيرة في مسجد "القائد إبراهيم" بالإسكندرية التي ورَّط فيها الشباب مع قوات الأمن بينما هو لم يحضر أيضًا.

والجدير بالذكر: أن الأستاذ حازم لم يكن يُظهِر منهجه أو انتماءه الفكري، بل كان حريصًا على الظهور بمظهر الداعية السلفي غير المنتمي تنظيميًّا لكيانٍ محددٍ، بما يؤهله ليكون حاضنًا للشباب الملتزم عمومًا؛ إلا أنه بعد تبيُّن عدم صلاحيته القانونية للدخول في سباق الرئاسة أظهر بعضًا مما يعتقده في مسألة "لزوم استخدام القوة لإسقاط الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة" -وهي أحد أهم سمات التيار القطبي- بدلًا مِن محاولة تقويمها وإصلاحها.

سابعًا: الموقف مِن الخطاب التكفيري للإخوان وحلفائهم: دافع الدكتور خالد عن حقيقة استبطان الإخوان لتكفير المجتمع دفاعًا أجوفًا، وقد مرَّ معنا طرفًا مما يؤكد على هذا المعنى، وليس فقط شهادة الخصوم، فهناك شواهد قوية على أن سيد قطب هو الامتداد الطبيعي لحسن البنا.

يقول كمال حبيب في حواره مع محمد قطب: "سألتُه: ولكن أين نضع فكر سيد قطب من تطور الحالة الفكرية للحركة الإسلامية؟

فقال: فكر سيد قطب هو الامتداد الحقيقي لفكر حسن البنا؛ فحسن البنا في رسالة التعاليم يقول: "ولا نكفر مسلمًا بذنب متى نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها"، وسيد قطب يتحدث عن قيد أو شرط "وعمل بمقتضاها".

ففي عام 1948م حدث وعي جديد عند حسن البنا تمثَّل في أن الحكام ليسوا مسلمين إذا لم يحكِّموا شريعة الله، وأتباعه الذين جاءوا مِن بعده؛ إما أنهم لم يدركوا هذا الوعي الجديد في خط تفكيره أو أهملوه عن قصد.

ولكن متى حدث التحول الفكري الحقيقي عند سيد قطب؟

التحول الفكري نشأ عند سيد بعد مذبحة 1954م، فعبد الناصر ذبح الإخوان في السجون، والجماهير كانت تصفق له، وتساءل: هل لو كانت هذه الجماهير تملك الوعي كانت ستصفق للطاغية؟! وتناقش سيد في هذا الأمر مع الشيخ محمد هواش، وانتهى الاثنان إلى أن هذه الجماهير لو كانت تعلم حقيقة لا إله إلا الله ما كانت صفقت للطاغية، مِن هنا يجب أن تبدأ الدعوة مِن كلمة التوحيد".

على نفس النسق يكتب "أحمد عبد المجيد" رأيه بخصوص هذه المسألة فيقول تحت عنوان: "موقف جديد": "قد يَعجب القارئ مِن هذا العنوان؛ إذ كيف تتغير الصورة الجميلة الرائعة، وماذا بعد أن تغيرت؟ إنها صورة جميلة حقًا، اعتدال وتوازن في منهج الدعوة في الداخل والخارج، وتعاون على الحركة والبناء مع المشورة والبذل والعطاء، فما الذي حدث بعد ذلك؟

لقد بذل الإمام الشهيد حسن البنا -رحمه الله- مِن الجهد والعطاء في البناء والحركة، وإيقاظ الهمم ما يفوق الوصف والبيان، وقد شعر في آخر زمانه أن للدعوة خصومًا معاندين في الداخل، يتخذون مِن الإسلام ستارًا، وأن خطرهم لا يقل إن لم يزد عن الأعداء الآخرين؛ لأن هؤلاء يتسمون بأسماء المسلمين ويتترسون بالإسلام.

ومع خطرهم العظيم، ودورهم الذي يقومون به لحرب الإسلام والمسلمين: رأى -رحمه الله- أن يحدد صفاتهم، ويفضح أمرهم، حتى لا ينخدع فيهم أحد، وذلك مِن خلال صفات الحكومة الإسلامية، ولم يسعفه العمر حتى يبين وضوح هذا الخط، مما جعل الأتباع يسيرون بعدها على الخط الأول السابق لهذا الكلام، ولم يدركوا كنه كلامه في هذا المقام، ولا كلامه في اشتراط النطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما.

ولا كلام مَن جاء بعده أمثال الشهيد سيد الذي يتابع الخط ويصله، مع إبراز وإيضاح القضايا الأساسية التي تشغل رجالات الدعوة.

قال الإمام الشهيد حسن البنا تحت عنوان: "معركة المصحف - أين حكم الله؟": "... الإسلام دين، ودولة ما في ذلك شك. ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح: أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة، أي: إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم.

وإذا قصَّر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكمًا إسلاميًّا، وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية، وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد دولة إسلامية.

وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال، ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية مهما ادعت ذلك بلسانها، وإن مِن شرائط الحاكم المسلم أن يكون في نفسه متمسكًا بفرائض الإسلام، بعيدًا عن محارم الله غير مرتكب للكبائر، وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكمًا مسلمًا حتى يكون شرائط دولته إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناءً على موقفهم هم مِن دعوة الإسلام".

خلاصة رأي أحمد عبد المجيد -وهو مِن قادة 65-: أن ثمة تغيير حدث في فكر البنا في آخر حياته، لم يدركه الكثيرون من أتباعه، ووعاه سيد قطب، فسار على نسقه وجدده، وبالتالي فالجيل الذي تربى على يد سيد قطب وخاض معه تجربة 65 يعتنق نفس الأفكار القطبية، ولديه نفس النظرة السلبية للمجتمع كما بيَّنا في أثناء الكلام عن الشاذلي وجماعته.

أما عن تسويغه للخطابات التكفيرية التي انطلقت مِن رموز الإخوان وحلفائهم على منصة رابعة، فهي مسوغات واهية، وتستعصي على مبادئ الفهم السليم؛ فهل سيسوغ: "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟!"، أم "اللي يشك في عودة مرسي يبقى بيشك في قدرة ربنا؟!"، أم "وصف المعارضة بالنفاق والكفر؟!"، والقائمة طويلة والخطابات مسجلة، ومحاولة حملها على حسن الظن مستعصية لمَن لديه أدنى ذرة من عقل.

أما بخصوص ما ذكره عن أغنية: "إحنا شعب وأنتم شعب، لنا رب ولكم رب"، وأن هذه الأغنية تحمل دلالات تكفيرية، وكأنه يريد أن يضعنا في تناقض، لماذا نرد على الإخوان ولا نرد على خصومهم، مع أن الخطاب التكفيري واحد؟!

والطريف: أن الدكتور خالد لم يحالفه التوفيق في هذا اللمز؛ لأن الدعوة السلفية قد قامت بالرد على هذه الأغنية في حينها، فكتب الشيخ "عبد المنعم الشحات" مقالًا بعنوان: "الغناء مِن الإقصاء إلى التكفير!" قال فيه: "فقد انتشرتْ في الآونة الأخيرة دعوات التكفير والتخوين والإقصاء، وتقاذفها الجميع فيما بينهم كما يتقاذف الأطفال الكرة، وكل يدعي أنه مجرد رد فعل، وأن الآخر كان هو الفعل، وبلغ الأمر مبلغه بدخول "الغناء" على خط الشماتة!

وقد استمعتُ إلى مقطع فيديو لأحد المطربين، ورغم أنه "يتبنى أن الجيش والشرطة اُضطروا إلى استعمال القوة في فض اعتصام رابعة؛ إلا أنه انتقد بعض الأغاني التي تمجد هذا الفعل بنغمات فيها بهجة وسرور، مع أن الشعور الذي كان ينبغي نقله إلى المستمِع مِن وجهة نظره هو شعور الحزن الذي يخيم على مَن يضطر إلى قتل نفس مهما كان الفعل الذي اضطره إلى ذلك"، ولكن موسم المزايدات لا يعترف بمثل هذه المعاني الإنسانية!

ثم ظهرت أغانٍ أخرى، وكان مِن أكثرها إثارة للجدل أغنية: "إحنا شعب وانتو شعب، ورغم إن الرب واحد لينا رب وليكو رب! "، وهي الأغنية التي أثارت استياء الكثيرين -وبعضهم من الوسط الفني-، وقد ردَّ مؤلف وملحن الأغنية بردود ملخصها: أن الأغنية فُهمت خطأ، وهو العذر الذي لم يقبل من أنصار الإخوان قبل ذلك، ولا يمكن قبوله من أي أحد، بالذات حينما يتعلق الأمر بقضية خطيرة مثل قضية التكفير أو التخوين.

ويزداد الأمر خطورة حينما يكون ذلك عبر الغناء الذي يردده جمهور متنوع ليس لديه الحصانة الفكرية مما يترسب في عقله الباطن من أفكار، وبينما كان التكفير العقدي لا يمر إلا عبر منظومة فكرية معينة لا تنتشر إلا بوسائل محدودة الانتشار؛ فقد أصبح "التكفير الغنائي" الآن وسيلة طيارة تحملها الميكروباصات والحافلات فضلاً عن التكاتك!".

فقليل مِن القراءة والمتابعة يا دكتور خالد يُغنيك عن كثيرٍ مِن الادعاء واللمز.

ثامنًا: ادعاؤه أن الدعوة انحازت لصف الطغاة والمجرمين: معلوم أن هذه التهم أصبحت معلبة وجاهزة، والطريف أنه مِن كثرة استعمالها بالزور والبهتان أصبحوا يستعملونها فيما بينهم، إذا وقع بينهم خلاف أو افتراق، وقد مرَّ معنا اتهام خالد سعيد لقادة الإخوان بالخيانة والعمالة مع الأمن، وعلى الباغي تدور الدوائر.

ومَن يطالع "بيانات الدعوة السلفية" و"حزب النور" يشهد -إن كان منصفًا- أن هذه الجماعة قامت بواجب النصح لكل المسلمين، بل وجهرت بكلمة الحق في كل موطن رأت فيه ظلمًا أو عدوانًا، ولم توافق على ظلم، ولم تشارك في باطل، ولم تتورط في دماء، وسعت -وما زالت- لجمع الكلمة ودفع الظلم، ولكن القوم اعتادوا على الظلم والتجني ورمي الآخرين بالخيانة والنفاق، وعند الله تجتمع الخصوم.

أمثلة مِن أكاذيب "خالد سعيد":

أولاً: ادعاؤه أن الشيخ ياسر برهامي كان يكفِّر الحكام قديمًا: يدعي الدكتور خالد أن للشيخ ياسر كتابات قديمة منشورة مكتوبة ومسموعة في هذا السياق؛ إذًا فالشواهد والأدلة تحت يديه في هذا الأمر وفيرة وغزيرة؛ فهلا أمدنا بنقلٍ واحدٍ يفيد ما يدعيه؟! علمًا بأن كل أشرطة الشيخ القديمة والحديثة مرفوعة على شبكة الإنترنت كما هي لم يُحذف منها شيء، كما أن كتاباته القديمة ما زالت تُطبع حتى الآن بلا أي تعديل فيها على الإطلاق.

والدعوة السلفية هي صاحبة الفضل في نشر القواعد المنضبطة في التعامل مع مسائل التكفير عامة، وقضايا الحكم بغير ما أنزل الله خاصة، فقد أحيت -بفضل الله- قواعد السلف في الفرق بين أنواع الكفر، والفرق بين كفر النوع والعين، فضلًا عن مسائل العذر بالجهل، وهي مسائل تغرق فيها المدرسة القطبية في أوحال البدعة والجهل، و"الدعوة السلفية" هي التي حملت على عاتقها تطهير الصف الإسلامي مِن هذه اللوثات الخارجية المنكرة.

ثانيًا: ادعاؤه بأن "الدعوة السلفية" عقدت مؤتمرًا لنعي الزرقاوي، وآخر لدعم الجهاد السوري: وهذه فرية أخرى تضاف لقائمة أكاذيبه في المقال، ونقول له: ما دام أنه مؤتمر فهو عمل معلن وظاهر؛ فهلا رابط لفقرات المؤتمر، أو صورة منه، أو فقرة مِن بيانه الختامي أو كلمات ضيوفه! بالطبع لن يجد شيئًا مِن ذلك؛ لأنه كذب صريح استوحاه مِن خياله المريض مِن أجل الطعن والتشويه.

أما دعم الجهاد السوري: فلا أفهم حقيقة: هل كنا ندعمه بمؤتمر أم كنا نخرِّبه بمجموعات مسلحة؟! وأين هي الشهادات الموثقة لتلك الكوادر المزعومة التي كانت مع الشيخ ياسر؟! خاصة أنه ذكر أن تلك الشهادات "موثقة كتابيًّا!"، فيا للعجب! هل هي موثقة كتابيًّا عنده هو فقط؟! أم عندهم وقد نال شرف الاطلاع عليها؟! أم هي موثقة كتابيًّا، ولكن بالحبر السري؛ فلا يتمكن من قراءته إلا الجهابذة أمثال خالد سعيد؟!

ومَن هو القائد المسلح الذي قُتل في نزاع قبلي بمطروح؟!

وما دام أنه قُتل وفارق الحياة، فلماذا لم يذكر لنا اسمه حتى يعرفه الجميع، وإذا كان دوره هو تخريب الجهاد في سوريا؛ فلماذا ترك دوره المهم في هذا الشأن، وعاد إلى مطروح ليموت هناك في نزاعٍ قبلي؟!

ثالثًا: ادعاؤه بأن هناك صديق للدكتور "ياسر برهامي" سرق 30 مليون جنيه: ويبدو هنا أن علاقة الدكتور خالد بجهاز المباحث قوية، وإلا فليخبرنا: مَن هو هذا الصديق؟ وكيف سرق هذا المبلغ؟ وسرقه ممَن؟ وأين هو الآن؟ وهل هي قضية معلنة ومعروفة أم سرية ومستترة؟! فإذا كانت معلنة ومعروفة: فلماذا لم يذكر لنا الاسم؟! وإن لم تكن كذلك، فمن أين عرف؟! وقبل كل هذا -على فرض أن كل ما سبق صحيح-: ما علاقة الدكتور ياسر بأن صديقه سرق؟ وما هو الذم الذي يلحقه بذلك؟!

رمتني بدائها وانسلت:

يختتم الدكتور خالد مقالته الطويلة بوصف مقال الشيخ ياسر بأنه مشحون بالتفاصيل التي لا هدف منها سوى التشويش على المتابع! ولا أدري على الحقيقة: مَن الذي أغرق المتابع في تفاصيل الغرض منها التشويش؟! هل الشيخ ياسر الذي اقتصرت مقالته على مواقف كان شاهدًا عليها وحاضرًا فيها، ويحكيها إبراءً للذمة وصيانة لحقائق التاريخ، أم الدكتور خالد الذي جمع في مقالته أنواعًا شتى مِن الأعاجيب والأغاليط والأكاذيب، ولم يرد ردًّا علميًّا منصفًا على أي مسألة من المسائل التي جاء ذكرها في مقالة الشيخ ياسر.

على أي حال إذا كان بعض المغرضين قديمًا قد تمكَّن مِن تزييف أحداث التاريخ، وقلب بعض حقائقه؛ فالآن أصبح هذا الأمر صعبًا بعض الشيء؛ لتقدم وسائل التسجيل والتوثيق، وارتفاع درجة الوعي لدى كثيرٍ مِن الناس -بفضل الله-.

وسيبقى كلامنا وكلامه شاهدًا لنا أو علينا، والله حسبنا ونعم الوكيل.