رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير المسلمين (1)

  • 209

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كانت رسالة الإسلام أول رسالة عالمية، تجاوزت حدود الزمان والمكان واللغة والجنس، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس عامة؛ فرسالته هي الرسالة التي جعلها الله خاتمة الرسالات والمهيمنة عليها، ودعا الناس إلى الإيمان بها؛ لأنها الحق الذي ارتضاه الله للبشرية دينًا، قال -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).

لكن الله -تبارك وتعالى- شاء بمشيئته وحكمته، أن يخلق الإنسان كائنًا فريدًا متميزًا بالاختيار؛ فقدَّر -سبحانه- أن ينقسم الناس إلى مؤمن مصدق، وكافر جاحد: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (التغابن:2).

الصورة الأولى:

عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه).

انظر إلى هذه الرحمة العظيمة التي ملأت قلبه -صلى الله عليه وسلم-،؛ ضربه قومه وأدموا قدمه، وطردوه، ومع ذلك فهو حريص عليهم ألا يهلكهم الله -تعالى-، والواحد منا إذا ضيَّق عليه قومه أو أقرباؤه في الكلام فقط ربما يزمجر ويضجر، ولا يتحملهم وهم مسلمون؛ ذلك حتي تعرف كيف كانت رحمته بالخلق عليه الصلاة والسلام!

الصورة الثانية:

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ)، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) (رواه البخاري)، ولك أن تتخيل فرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسٍ أنقذها الله به من النار؛ هكذا يجب أن يكون حال الدعاة مع الخلق.

الصورة الثالثة:

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.