(لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)

  • 318

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فكثيرًا ما يرغِّب الله -تعالى-، وكذا نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، والبذل والعمل لها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). (متفق عليه).

وعدَّد -تعالى- في الجنة النعم الحسية مِن جناتٍ وثمارٍ، ولحمٍ، وكذا مِن حورٍ عينٍ وخدمٍ، ومِن راحة واتكاء، وغير ذلك، كما قال -تعالى-: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (الزخرف:71).

وكذا عدد -تعالى- مِن النعم المعنوية، وأعلاها النظر إلى وجه الله -تعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ قَالَ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ) (رواه مسلم).

وكذا أتم عليهم نعمه -سبحانه- برضاه عليهم، فإن المتنعم لا ينعم ويسعد بالنعم، ورب هذه النعم عليه غاضب، فاخبرهم -تعالى- كما في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه).

وأنعم عليهم بلحوق الصالحين مِن أبنائهم الذين اتبعوهم بإيمان معهم في منازل آبائهم في الجنة، وإن لم يبلغوها بأعمالهم، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:٢١).

وكذا نزع -تعالى- من صدورهم الغل والحسد الذي يضيق به صاحبه ويتعس، ولو كان عنده ما عنده من النعيم، كما قال -تعالى-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر:47).

وكذا امتن الله عليهم وعافاهم مِن سماع كل لغو وسباب وشتائم، وغير ذلك مما تنزعج وتضيق به قلوب المؤمنين، وأبدلهم به سلامًا، كما قال -تعالى-: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم:62).  

(سَلَامًا): أي: إلا الأقوال السالمة من كل عيب، قاله السعدي، واعظمها مخاطبة الرحمن وسماع سلامه عليهم.

وكذا أقر أعينهم بانتقامه مِن أعدائهم وأعداء الله -تعالى- مِن الكافرين، قال -عز وجل-: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المطففين:34-36).

فينظرون وهم على السُّرر إلى أهل النار كيف يعذّبون، فيضحكون منهم، ويكون ذلك مما أقرّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم (تفسير الطبري بتصرف).

وأذهب عنهم كل أحزان ومخاوف وهموم الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:34)، ولكن هذا النعيم سيظل منغصًا طالما علم الإنسان انه غير دائم، وأنه سينتهي كنعيم الدنيا فإنه مهما بلغ مِن حسن فإنه ناقص وزائل، فأخبر -تعالى- عباده وطمأنهم أنهم خالدون فيها.

ولكن قد يتصور كما في الدنيا أن الإنسان في الدنيا لا يستقر له بال، بل هو في تطلع دائم، وكلما ملك نعمة تمنى غيرها، وكذا إن طول الإقامة تورث الملل والضجر؛ فاخبر -تعالى- أن أهل الجنة غير ذلك، فهم مع خلودهم في الجنة إلا أنهم كما قال -تعالى-: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) (الكهف:108).

قال السعدي -رحمه الله-: "(لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا): أي: تحولًا ولا انتقالًا؛ لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم، ولا يرون نعيمًا فوق ما هم فيه" (انتهى).

ولا شك أن هذه الأسطر لا تفي بالحديث عن الجنة، ولكن هي خطوة لتقريب هذا النعيم المقيم.