اعتذَرَ فاعْذُرْه

  • 270

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن صفات كبارِ النفوس التماسُ الأعذار لأصحابها قبل تقديمهم لها، وهذا أصله إحسانُ المسلمِ الظنَّ بأخيه، فقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ) (متفق عليه).

وتأملْ في تلك النملة التي التمست العذر لسليمان -عليه السلامُ- وجنودِه، فقالت في نصيحتها لقومها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (النمل:18)، فالتمست لهم عذرًا في أنهم إن حطموا النمل فليس عن قصدٍ منهم ولا شعور؛ فإياك أن تكون نملةٌ أفقَهَ منك، وأحرصَ على الخير!

هذا إن لم يصِلْك منه اعتذارٌ، أما إن أتاك معتذرًا معترفًا بخطئه الذي ارتكبَه في حقك، فأولَى بك وأحرَى أن تقبل عذر أخيك المسلم بصدرٍ رَحبٍ، وقلبٍ تَقِيٍّ نقِيٍّ، ينسف الضغينة نسفًا، ولا يَسمَح للحقد أن يستقر فيه لحظةً، فإن كان بينك وبين أخيك شيءٌ وحاول الشيطان إفساد وُدِّ ما بينكما، فأحسِنِ الظنَّ بأخيك وقُل: "لعلّه لم يقصِد، لعَلّي لم أُحسِن سماع كلامِه، لعلي أسأتُ فهْمَه".

وتأمّل هذا النموذج الفريد في إحسان الظن والتماس العذر: فقد دخل على الإمام الشافعي في مرض موته تلميذُه الربيعُ بن سليمان فقال: "قوَّى اللهُ ضعْفَكَ يا إمام". فقال الشافعي: "انظر ماذا تقول؟! لو قوَّى الله ضعفي لقتلني!" -يعنى لو زاد ضعفي ومرضي فقد أموت-. فقال الربيعُ: "والله ما قصدتُ يا إمام"، فقال الإمام الشافعي: "والله لو شتَمْتَنِي؛ لعلِمْتُ أنك لم تقصِدْ!".

إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا على الاعتذار عن الخطأ وقبول اعتذار الآخرين، ويحتاج ذلك منا لكثيرٍ مِن المجاهدة حتى تنْقادَ نفوسُنا ويسْهُلَ عليها ذلك، فالاعتذار شاقٌّ على النفوس، وبعض الناس قد تخرج أرواحُهم مِن جسومهم ولا تخرج كلمة الاعتذار مِن أفواههم؛ لا يقبلون اعتذارًا ممَن يعتذر، بل قد ينصبون المحاكمات للتحقيق في الهفوات.

ومما يعين على هذه المجاهدة تذَكُّرُ قوله -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى:40)، ولمَن لا يقبل العذر ظنًّا منه أنه يورث الذلة والمهانة، نسدي نصيحة رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ) (رواه مسلم)، فالعفو سبب لرفعة صاحبه وعزته، لا العكس.

ومما يعين على ترويض النفس: الاطلاع على ما نقله أهل العلم عن السلف، ومِن ذلك: قَوْلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ -رضي الله عنهما-: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ، وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الْأُخْرَى؛ لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ".

وَمِنْ النَّظْمِ فِي مَعْنَاهُ:

قـِيـلَ لِـي قـَدْ أَسـَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ            وَقُعُودُ الْفَتَى عَلَى الضَّيْمِ عَارُ

قـُلْتُ قـَدْ جَـاءَنَا فَأَحْـدَثَ عُذْرَا            دِيـَةُ الــذَّنْبِ عِـنْـدَنَا الِاعـْـتِذَارُ

وَقَالَ الْأَحْنَفُ: "إنْ اعْتَذَرَ إلَيْكَ مُعْتَذِرٌ تَلَقَّهُ بِالْبِشْرِ".

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرَا            إنْ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا

فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ          وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا

وَقَالَ آخَرُ:

إنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبَا             فـَأُرِيـهِ أَنَّ لِـهَـجْـرِهِ أَسـْبَـابـَا

وَأَخـَافُ إنْ عَـاتَبْتُهُ أَغْرَيْـتـُهُ             فـَأَرَى لَهُ تَرْكَ الْعِتَابِ عِتَـابَـا

(انظر: الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح، 1/ 302 - 305).

وقال ابنُ القيِّمِ -رحمه الله-: "وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ. فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ، فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-.

وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ" (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، 2/ 321).

وها هنا أمر مهم قد أشار إليه أحد الدعاة وهو أنه ينبغي على المُعتذَر إليه أن يقبل الاعتذار العملي ولا يَشترِط اللفظي، فكثير مِن الناس قد يشق عليه التلفظ بالاعتذار، ولكنه يأتي بأفعالٍ ليس لها إلا معنى الاعتذار الضمني، فيبغي قبول ذلك منه ومعاونته على نفسه كي لا يغلبه شيطانه ويفسده بعد أن سار في طريق الإصلاح.

وأمرٌ آخر وهو الإسراع في الاعتذارِ وقبولِه حتى لا ندع فرصةً للشيطان فتتسع الهوة بين الأخ وأخيه، لذلك جاء عن بعض السلف أنَّه أغضب أخًا له فجاءه يقول: "جئتك لنتَعاتَب"، فقال: "لا تَقُلْ هكذا، بل جئتَ لنتغَافر ونتسامح، بل نسيتُ فنسيتَ".