ولو حبة خردل!

  • 251

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).

قال السعدى -رحمة الله-: "وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله (أُمَّةٌ) أي: جماعة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه.

وهذا إرشاد مِن الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين، وتفقد أهل الأسواق، ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة.

وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، إلخ، أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومِن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه.

وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين؛ ولهذا قال -تعالى- عنهم: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب".

وقال أبو بكر الجزائري -رحمه الله-: "بأن يوجدوا مِن أنفسهم جماعة تدعو إلى الإِسلام؛ وذلك بعرضه على الأمم والشعوب، ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإِسلام وبين أهله، فقال -تعالى- مخاطبًا إياهم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) أي: يجب أن تكون منكم طائفة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي: الإِسلام، (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وبشَّرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار".

والمقصود مِن هذه الآية: أن تكون فرقة مِن الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فردٍ مِن الأمة بحسبه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم). وفي رواية: (فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَل) (رواه مسلم).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

وقال شيخ الأزهر السابق سيد طنطاوي: "والمعنى: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص، تبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس، وفي أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التي توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة، وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله، وتنفر منه الطباع الحسنة. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ): يرى أكثر العلماء أن "مِن" للتبعيض، أي: ليكن بعض منكم أمة، أي: طائفة تبذل جهدها في تبليغ رسالات الله وفي دعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

وفي هذا التبعيض وتنكير (أمة) تنبيه على قلة العاملين بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص. 

ويرى بعض العلماء أن "مِن" في قوله- تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) بيانية؛ فيكون المعنى: أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على سبيل الفرض الكفائي، بل على سبيل الفرض العيني. أي: لتكونوا أيها المؤمنون جميعًا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فـ"مِن" هنا ليس المراد بها التبعيض على هذا الرأي، بل المراد بها البيان. 

ويبدو لنا أن الرأي الأول وهو أن "مِن" للتبعيض أقرب إلى الصواب؛ لأن الأمة كلها برجالها ونسائها وشبابها وشيوخها لا تصلح لهذه المهمة السامية، وإنما يصلح لها مَن يجيدها ويحسنها بأن تكون عنده القدرة العقلية والعلمية، والنفسية والخلقية لأدائها".

إذًا نحتاج جيشًا مِن الدعاة يتميزون بصفات العلماء الربانيين مِن صبر وحلم، وعلم وفقه وبصيرة، فهل يكون لك هذا الشرف أيها القارئ الكريم أن تكون مِن هؤلاء العظماء؟!

نسأل الله -تعالى- أن نكون منهم.

والحمد لله رب العالمين.