ذكريات (8)

  • 662

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد جاءتنا دعوة يوم 23 رمضان سنة 1434 هجرية لمقابلة القيادة السياسية؛ فوجدنا فيها فرصة لعرض فكرتنا في الحل السياسي، ووازَنْتُ بين مُواصَلة الاعتكاف في العشر الأواخر وبين الخروج لهذا اللقاء بنفسي؛ وقررتُ الخروج؛ لأن إصلاح ذات البين ومنع سفك الدماء أولى بلا شك من الاعتكاف؛ فذهبت مع المهندس جلال مُرَّة، والمهندس أشرف ثابت، والدكتور بسام الزرقا.

وتَمَّ اللقاء... واستعرضنا الوضع السياسي والمجتمعي، ونَقلَت القيادة السياسية شكوى سكان منطقة "رابعة" من الاعتصام وما يتعرضون له من عدم إمكانية الاستمرار في حياتهم اليومية، وصعوبة الحركة والانتقال، وذكروا أن هذه الآلاف تمارس حياتها اليومية من الطعام والشراب وقضاء الحاجة في الميدان، وأَكَّدَ ذلك أحدُ إخواننا الحاضرين أنه مَرَّ مِن هناك ووجد مَن يعترضون الناس بتشنج لمطالعة بطاقاتهم، وأنهم في قلقٍ شديدٍ وتوترٍ واضح، كما أن الشرطة تراقِب بطاقات الناس؛ فالناس في شِدَّةٍ في هذه المنطقة.

وقلنا: إنه لا بد من حل لهذه المشكلة، وأمامنا ثلاث سيناريوهات عرضناها بوضوح على الحضور:

الأول: الفَضّ باستعمال القوة الخشنة وإطلاق النار:

وقلنا: هذا أسوأ الحلول؛ لما يتضمنه أولًا مِن سفك الدماء المعصومة شرعًا -وهذا الذي يُحَرِّكُنا أولًا-، وثانيًا: للآثار الخطيرة على المجتمع من وجود فئةٍ كبيرة منه -لا يمكن إهمالها ولا القضاء عليها- تُعَادِي المجتمع نفسه، وتُكَرِّس المظلومية، ثم تصل إلى تكفير المجتمع والدولة، وأن مشكلتنا الآن هي وليدة ونتاج أزمة الستينيات في سجون "عبد الناصر"، فالشخصيات القيادية الحالية في "الإخوان" تتعامل مع المجتمع بخلفية ما لقوه وهم شباب -في نحو العشرين من عمرهم أو أقل-؛ بالإضافة إلى الفكر المنحرف الذي تَشَرَّبوه بلا علمٍ مِن القيادات القطبية في ذلك الوقت داخل السجن.

وقلنا: إننا نخشى أنه حتى بعد حل الأزمة الحالية تتفجر أزمات مماثلة بعد 40 أو 50 سنة من الآن بسبب هذه النوعيات لو دخلت السجون، ووقع سفك للدماء.

ثم إن هؤلاء الشباب المعتصمين في النهاية هم أبناؤنا وأبناؤكم وأبناء الشعب المصري -مصريون ينتمون لهذا البلد على أي حال وإن أخطأوا، وبأي درجة كان خطؤهم-؛ فالمطلوب التصحيح للأخطاء لا الانتقام؛ وكان الجواب: نحن معكم أن هذا هو أسوأ الحلول.

- السيناريو الثاني: استعمال القوة الناعمة في إنهاء الاعتصام مِن الغازات المسيلة للدموع، والهراوات، ونحو ذلك:

وهذا أقل ضررًا بلا شك، ولكنه أيضًا يترتب عليه ولا بد إصابات مِن قتلى وجرحى بنسبة أقل، ولكن لا بد أن تكون له آثار سيئة على المجتمع في الجملة.

فكان الجواب: معكم على ذلك أيضًا.

- السيناريو الثالث: "الحل السياسي"، وقلنا: هذا أفضل الحلول وأقلها خسارة على البلاد والمجتمع:

فكان الجواب الفوري: أيدينا مع أيديكم على الحل السياسي، ولكن كيف هذا الحل السياسي؟!

فتكلمنا عن إمكانية هذا الحل وقلنا: هناك مبادرة عرضها الدكتور سليم العَوَّا. وقبل أن نشرح فكرتنا في هذه المبادرة بتعديلها وعدم قبولها كما هي بلا شك، قاطَعَنا المتحدث بحدة وحَسم -خلاف سائر الجلسة-: "هناك خارطة طريق تم إعلانها وتم الاتفاق عليها، ومَن أراد السير فيها فأهلًا وسهلًا، وإلا فغير مقبول أي شيءٍ آخر". قلنا: نحن لم نكمل كلامنا -وما كنت أدري أن ذِكر اسم الدكتور العَوَّا يؤدي إلى كل هذه الحدة والحسم-، قلنا: وما سنعرضه لا يتعارض مع خارطة الطريق ولا يمثِّل مسارًا آخر، بل يمثل حسن تطبيق لها بأقل قدر من الخسائر، ونحن لا نقصد مبادرة العوا كما هي؛ بل مع تعديل جوهري أساسي لها؛ لأن خطاب التفويض من الدكتور مرسي الذي كان قد عَرَضه في المبادرة لشخصية يتفق عليها الطرفان لا بد أن يتضمن استقالته، وهذا هو الفرق الجوهري عن المبادرة؛ الاستقالة من منصب الرئيس، وبالتالي يصبح خاليًا، وبالتالي تعقد انتخابات رئاسية مبكرة كما هو متفق عليه في خارطة الطريق المعلن عنها في 3/7، وبهذا نتجنب سفك الدماء والضغوط الدولية واتهامات انتهاك حقوق الإنسان؛ وكل هذا قد يعرض البلاد لمخاطر نحن في غنى عنها؛ فكانت الإجابة المُبَشِّرَة بالنسبة لنا: إننا لن نرفض ما عَرَضتم، ولن نقبله أيضًا؛ ولكن نقول: اِعرِضوا هذا الحل على القوى السياسية؛ فإن اتفقتم عليه فنحن موافِقون على ما اتفقتم عليه مسبقًا وبلا شروط.

فقلنا لبعضنا: إذًا الباب مفتوح، وإن لم يكن على مصراعيه إلا أنه ليس مغلقًا، ويمكننا تجنيب بلادنا ومجتمعنا مشاكل لا تُحصى.

وانصرفنا على وعد بالتواصل، واتصلنا بالدكتور يونس -الذي تَعَذَّرَ حضوره هذا الاجتماع لعذر عنده-، وقلنا له يتصل بالأحزاب والقوى السياسية لعقد اجتماع للنظر في مستقبل البلاد وحل الأزمة.

وبالفعل تواصَل الدكتور يونس مع الدكتور سيد البدوي -رئيس حزب الوفد آنذاك- واتفقوا على دعوة الأحزاب والقوى السياسية لاجتماع عاجل يوم الخميس -أي في الغد- لبحث الأوضاع.

وبالفعل تم الاجتماع، وحضر الدكتور يونس وعرض وجهة النظر في أن أسوأ الحلول هو حل القوة الخشنة، وأن أفضل الحلول هو الحل السياسي، وكانت المفاجأة لنا أن نصف الحاضرين وافقوا على ذلك، ونصفهم تقريبًا أيضًا رفضوا!

كانت المفاجأة في أن نسبة الرفض كانت كبيرة جدًّا في تصورنا!

قال الرافضون: "الإخوان" لن ينزلوا ولن يستجيبوا إلا بالدم! وظَلَّت المحاولات مستمرة طوال ساعات الاجتماع في إقناع الرافضين بأن الدم أسوأ ما يكون على المجتمع والدولة، ولا يصح أن نحل أزمة وقتية ونصدر لأولادنا وأحفادنا بعد 40 أو 50 سنة أزمة أعنف منها!

ولم يُسفر الاجتماع عن شيءٍ مُتَّفَقٍ عليه، ولكن فتح الباب لاجتماع آخر يوم الأحد الذي يليه؛ لمحاولة إقناع الرافضين.

وفي مساء يوم الخميس 24 رمضان كان "جون ماكين" -رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي- في زيارة التقى فيها بقيادات من كل الاتجاهات، وفوجئت بتصريحات مُخَيِّبَة للآمال بشكل عنيف؛ إذ أعلَن أننا لا بد أن نسمي الأشياء بأسمائها؛ فكما نسمي البَطَّة بَطَّة فلا بد أن نقول عن الانقلاب أنه انقلاب، وأن مصر مقبلة على حمامات دم قريبًا!

ضِقت جدًّا في هذه الأيام وأنا في الاعتكاف وقلت: هو يغازل الإخوان، بل قطعًا يُوَرِّطهم ويَدفعهم إلى الحائط ليصطدموا به صدمة عنيفة فظيعة -ربما مُحَطِّمة-، وهو يوهمهم أن الأمريكان معهم.

دعوتُ الله في اعتكافي بالستر، وأن يجنب الله المسلمين والبلاد شرهم.

وفي صباح يوم الجمعة أرسلت رسالة لزميلنا الدكتور الذي كان قد حضر يوم الثلاثاء وأخبرني أن نتدخل في الحل السياسي؛ لأنهم -أي الإخوان- اقتنعوا بأن عودة الدكتور مرسي والبرلمان والدستور شبه مستحيلة، وأنهم يريدون حلًّا سياسيًّا سلميًّا، فأرسلتُ له رسالة؛ أطلب سرعة الرد على اقتراحنا بتعديل مبادرة الدكتور "العوا" بأن يُقَدِّم الدكتور مرسي استقالته مع تفويض شخصية يتفق عليها جميع الأطراف في صلاحياته، وفي صلاة الجمعة حضر معي صديق طبيب -وهو صديق لهذا الدكتور أيضًا، زميل لنا، لكنه أقرب للسلفية ولا أظن أنه ينتمي للإخوان، أو لا أعرف انتماءه للإخوان- ومعه صديق له من بورسعيد، وطلب الجلوس معي بعد الصلاة؛ وإذا بهم يحاولون إقناعي لتغيير موقفنا لمُوَافَقَة "الإخوان" والذهاب إلى "رابعة"! وأن هذا كفيل بتغيير كافة الموازين!

فتعجبت للغيبوبة في التفكير، والسذاجة في وزن الأمور، وتأكدتُ في نفسي أن الأمريكان والغرب قد أوهَموهم بالتأييد؛ فيحتاجون التأييد الشعبي للدعوة السلفية لحسم الأمر في ظنهم!

وعجبًا فَكَّرُوا، وعجبًا وثقوا في عَدُوٍّ لدود! -فبعد خمس سنوات ونصف من هذا التاريخ قرأت تصريحات لبعض قادة "الإخوان" أن "جون ماكين" خدعهم بالتأييد وألبسهم في الحائط! وهو ما كنت استنبطتُّه من تصريحاته ليلة الجمعة يوم الخميس؛ فقلت للرسولين: أنا في انتظار ردٍّ على مبادرة للحل السياسي مِن قِبَل "الإخوان"، وانصرفا.

وبعد العصر جاءني الرد الصادم المُحبِط من زميلنا الدكتور -بموقف عكس موقفه الثلاثاء 180 درجة- برسالة على "الواتس" نَصُّها: (الكل هنا مجمعون على سقوط الانقلاب وعودة الرئيس وعودة الدستور وعودة البرلمان؛ ونحن في انتظارك هنا على منصة "رابعة" لتعلن تصحيح اجتهادك؛ ونحن نحملك على الأعناق!)، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أكتفي الآن بهذا القدر مِن الذكريات، وقد مرت ذكرى "رابعة" بسلام، وكنت أخشى مِن تكديرها؛ فكتبت هذه الذكريات لعل شبابنا وشباب الاتجاهات الإسلامية المختلفة يدرِكون حقيقة موقفنا وحقيقة سعينا في ذلك الوقت.

ونحمد الله على سداد القرار في وقت عصيبٍ وفتنة مُدلَهِمَّة، لا زالت آثارها إلى اليوم.

على أن نُسَجِّل باقي الذكريات في كتابٍ -إن شاء الله-.