مظاهر القسوة في حياتنا.. أسباب وعلاج (2)

  • 918
1
مظاهر القسوة في حياتنا.. أسباب وعلاج (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا زالت الأحداث تتتابع كل أسبوع -مرة أو مرتين- في قضية القسوة ومظاهرها:

- هذا شاب بالغ -يُسَمُّونه طفلًا!- يحاول اغتصاب امرأة شريفة عفيفة؛ وحين أَبَت وقاوَمَته ودافعت عن شرفها وعرضها ذبحها، ثم يُحَاكَم كطفل!

- وهذا آخر يتحرش بفتاة ويحاول الاعتداء عليها، ويحاول شاب شهمٌ كريم أن يدافع عنها وينهاه عن ذلك؛ فيتربص به ويقتله، ثم تكون أيام في شهادة الميلاد قبل الثامنة عشرة ميلادية مانعة مِن نزول العقوبة التي يستحقها في شرع الله قصاصًا!

- وذاك آخر يُدمِن المخدرات ويَتَّجِر فيها ويحمل السلاح، ثم لا يعاقَب العقوبة الزاجرة!

- وهذا آخر يأمر شابين بالقفز من القطار وهو يتحرك بسرعة، ويهددهما بالتسليم إلى الشرطة -وما أدراك ما ذلك إن لم يقفزا- حتى يسقط أحدهما صريعًا تحت عجلات القطار! ولم يتذكر أن ابنه في مثل سِنِّه! والعجب أن الناس كانوا يتفرجون وقد عملت القسوة والسلبية عملهما حتى لا يوجد مَن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر؛ ولو باللسان الهادئ مُجَرَّدًا عن أي تغيير آخر!

ولقد علم الله -سبحانه- كم حاولنا في منع النص على أن سن الطفولة 18 عامًا في الدستور، مع مخالفة هذا لإجماع أهل العلم باعتبار الإنسان بالغًا بوجود الاحتلام، وظهور علامات البلوغ، وقول الجمهور: إنه حتى ولو لم يحدث الاحتلام أو العلامات، فإنه يحكم ببلوغه عند بلوغ سن 15 سنة هجرية، وأَصَرَّ مَن أَصَرَّ وقتها على أقوال شاذة لا اعتبار بها في سن الـ 18 وهو عند مَن قال بها مِن الشُذَّاذ مِن المنتسبين للعلم إذا لم تظهر العلامات؛ وليس مع ظهورها وتأكدها!

ويتحمل فساد المجتمع بهذه القسوة: مَن أَصَرَّ على إمضائها حتى صار تغييرها مِن أصعب الأمور -حتى اشتكى القضاء من وجودها-؛ وما كان ذاك إلا إرضاءً لأهواء الغربيين المُدَمِّرة التي دمَّرت مجتمعاتهم، وعَزَّ عليهم أن تبقى مجتمعاتنا أبعد بدرجةٍ ما عما وصلوا إليه من الجريمة والخراب!

ولا شك أن كل عالِم منصف يعلم أن الخلاف الشاذ لا يُعتَدُّ به، وأن ما خَالَف الإجماع يجب رَدُّه؛ ولهذا فهذه القوانين التي تُرَتِّب منع العقوبات على البالغين بحجة الاستناد إلى سنِّ الطفولة في الدستور تخالف الشريعة الإسلامية؛ ويجب إبطالها دستوريًّا بعد بطلانها شرعيًّا، وهي مسئولية مجلس النواب -ومسئولية الجميع- في إعادة النظر في هذه القوانين مع ضرورة تضمُّن أقرب تعديل دستوري تغيير سن الطفولة إلى المستقر عليه -شرعيًّا وطبيًّا وفسيولوجيًّا وواقعيًا وحِسِّيًّا- من اعتبار البلوغ وعلاماته هي التي تُبنى عليها الأحكام في هذا الباب.

أما ما يتعلق بأسباب ظاهرة القسوة وطرق علاجها؛ فسنستعرض إن شاء الله أكثر من 11 سببًا كبيرًا أدَّى إلى انتشار هذه الظاهرة، وكل سبب منها علاجُه بتحصيل ضده؛ لإزالة هذا السبب من المجتمع.

أما الأول:

فترك وإهمال الصلوات والعبادات في الأجيال الناشئة، بل في كثيرٍ مِن الأجيال الحالي؛، شبابًا وكهولًا، رجالًا ونساءً؛ فانتشر ترك الصلاة، والإفطار في رمضان، وانتشر كذلك: إهمال الأبوين أمر الأولاد حتى تعودوا على ترك الصلاة والعبادات، مع أن ترك صلاةٍ واحدةٍ مِن بالغٍ تَعَمُّدًا أكبر من كل الكبائر، ومعصيةٌ سَمَّاها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفرًا أعظم بكثيرٍ مِن الكبائر دونها، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ) (رواه مسلم)، وقال: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (لَا تَتْرُكِ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا، فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وقال: (مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (رواه البخاري)، وقال: (مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) (متفق عليه).

ورغم أن جمهور العلماء مِن أهل السُنَّة حملوا أحاديث كفر تارك الصلاة على الـ"كفر دون كفر" وليس على "الكفر الأكبر"؛ إلا أن طائفة من علماء أهل السُنَّة يرون تكفير تارك الصلاة كفرًا ناقلًا عن المِلَّة بترك صلاةٍ واحدة أو صلاتين مجموعتين أو ثلاث صلوات، ومع أننا نرجح قول الجمهور؛ إلا أن الخلاف -مع اتفاق العلماء على أنه خلاف سائغ لا يُضَلَّل فيه المخالِف- يبيِّن لنا مدى تعظيم الأُمَّة باتفاقها لأمر الصلاة.

وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبينًا غِلظ ترك الصلاة وارتباطه باتباع الشهوات: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم:59)، ولا شك أن مراقبة الله خمس مرات في اليوم والليلة تَمنع العبد من العدوان والقسوة، والاعتداء على الآخرين، وذِكر الله سببٌ لِلِين القلب ورحمة الإنسان بالخَلق ورِفقه بهم ورِقَّتِه عليهم.

ولقد أَمَر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوالدين بتعويد الأولاد -ذكورًا وإناثًا- على الصلاة قبل البلوغ، فقال: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)؛ فيجب على الوالدين كل يوم خمس مرات "ابتداءً من الفجر في وقتها" أمر الأولاد بالصلاة في وقتها وبشروطها وأركانها؛ وهذا يستلزم تعليمهم ذلك من الطهارة وستر العورات وغيرها، وهذا وإن لم يكن الطفل مُكَلَّفًا إلا أن الوالدين مُكَلَّفان، وهما يأثمان بترك الأولاد هملًا في هذا الأمر، ولا شك أن الصبي والصبية إذا أُمِروا ثلاث سنين -دون عقوبة- بأداء الصلاة على وقتها من سن 7 سنين هجرية يوميًّا 5 مرات إلى سن 10 سنين -وقد يحتاج الأمر في السَّنَة الواحدة لعدة مرات حتى يؤديها الطفل-؛ لا شك أن هذا يغرس فيه حُبَّ الصلاة والتعود عليها؛ فإذا بلغ الصبي والصبية 10 سنين هجرية فكل صلاة يتركها يجب على الوالدين ضربه عليها.

ولا يَظُنَّن ظانٌّ أن ذلك فيه قسوة على الطفل أو عنف غير مبرر؛ فأرحم الراحمين هو الذي شرع ذلك على لسان الرؤوف الرحيم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهل لو ترك الوالدان أولادهما هملًا في باب الدراسة وحضور المدارس وأداء الواجبات -لأن الاطفال يؤثرون اللعب واللهو- تكون هذه شفقة ورحمة -حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ جاهلين لاهين لاعبين يُصَاحِبون المجرمين بكى الوالدان على ضياعهم-؟!

ولا شك أن الصلاة في ذلك أوجَب وأحصَن للطفل والطفلة عن الانحراف في مجال الفساد التي مظاهر القسوة من ملامحها.

ولقد سألتُ مرةً عددًا مَارًّا بباب المسجد بعد شروق الشمس من طلاب المرحلة الإعدادية وأواخر الابتدائية ذاهبين إلى مدرستهم -وكانوا نحو العشرين-: مَن فيكم صلى الفجر؟ فلم يكن هناك إلا طالبٌ واحدٌ أو طالبان -إن كانا قد صَدَقَا-!

وسألتُ مُدَرِّسين وطُلَّابًا عن عدد مَن يُصَلِّي في الفصل الذي يُدَرِّس فيه أو يَدرس فيه فأكثرهم لا يَعرف؛ لأنه لا يَسأل ولا يَهتم! ومَن أجابني كانت النسبة مُفزِعة في الضعف (حوالي 2% أو 4%!)، وأعلى نسبة كانت 25% في مدرسة ثانوية أزهرية -أعني قد أوشك طلابها على تحمل مسئولية الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ رسميًّا!-؛ إلا أن مُدَرِّسًا واحدًا فاضِلًا في مدرسة أزهرية قال لي: جميع الأولاد يصلون؛ ثم استطرَد: لأني كل حصة أُكَلِّمهم عن الصلاة، وهل أَدَّيتم الصلاة أم لا، وآخذهم في الفسحة للصلاة -بارك الله فيه-؛ وهذا يدلنا على أهمية دور المدرس الإيجابي أو السلبي في هذه القضية؛ فأصل التربية: التربية الإيمانية، والتربية العِبَادِيَّة، والتربية السلوكية، والتربية الأخلاقية، كما دلت على ذلك وصية لقمان لابنه وهو يعظه كما بَيَّنَها القرآن؛ فلن تنفعنا الشكوى مما نحن فيه من مظاهر القسوة، ونحن قد أهملنا تربية أجيالنا على أهم سببٍ لِلِين القلب من ذكر الله وإقامة الصلاة.

وعلى الإخوة المُصَلِّين في طريقهم إلى المسجد أن يَحُثُّوا الشباب الواقفين على نواصي الشوارع على الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهداية، ولا بد أن نهتم -في الدعوة الفردية، وفي قوافل الدعوة، وفي خطب الجمعة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المقاطع التي ننشرها- بالتنبيه على أهمية أداء الصلاة في وقتها؛ لأنها سبب لمراقبة الله عَزَّ وَجَلَّ أعظم سببٍ، وسبب لمنع القسوة في علاقتنا بِرَبِّنا؛ والذي يُثمر منع القسوة في معاملاتنا مع الناس.

والله المستعان. 

لقراءة الجزء الأول 

أضغط هنا