مظاهر القسوة في حياتنا... أسباب وعلاج (4)

  • 586
1

العصبية الجاهلية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن أكبر أسباب القسوة والنزاع عبر الزمان: العصبية الجاهلية التي تقسِّم الناس -حُبًّا وبُغضًا، وولاءً وعداءً، وإكرامًا وإهانة- على أساس العائلة والقبيلة، أو الطائفة، أو الإقليم، أو اللون، أو العِرق، أو المذهب، أو الوطن أو القومية؛ دون نظر إلى التقوى، دون نظرٍ إلى التفريق بين الحق والباطل، والعدل والظلم وفق ما أنزله الله من الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213).

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً): أي: فاختلفوا -كما في الآيات الأخرى-، (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)؛ وذلك ليحكم الرسل بينهم بما أنزل الله من الكتاب، وقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).

والتقوى أساسها: اتقاء الشرك -الذي هو أعظم سبب لغضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة-، فلا يكون مُتَّقِيًا مَن كَذَّب الله  ورسله، أو كفر بكتبه أو بأحدٍ مِن رسله.

وللأسف تَرَك الناس هذه الدائرة الإنسانية الحقيقية، الرَّحبة الواسعة للحب والبغض، والولاء والعداء؛ التي هي رابطة التوجُّه إلى الخالق الواحد بالعبادة وتصديق جميع رسله؛ تَرَكوا تلك الروابط التي خلقها الله لتكون سببًا للتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، فجعلها شياطين الإنس والجن سببًا للفرقة والبغي والعدوان، والتعالي والكِبر؛ كي تكون أُمَّة هي أَربَى مِن أُمَّة بغير حَقٍّ أنزله الله؛ إنما بمجرد الانتماء إلى العائلة التي يَنتسب إليها الإنسان، أو القبيلة التي نشأ فيها، أو الطائفة والعِرق الذي هو منه، أو اللون الذي يظهر على بشرته، أو الأرض التي يسكن عليها، أو القوم الذين هو منهم، أو المذهب الذي ينتمي إليه!

ولنتأمل حوادث الثأر والقتل الذي يخرِّب البلاد والقرى التي كانت تعيش في أمانٍ ورغدٍ من العيش، فإذا بها تتحول -بسبب الثأر الجاهلي- إلى حربٍ بين أهل البلد الواحد، والمصالح الواحدة، والدين الواحد.

وقد ازداد الأمر سوءًا بترك تطبيق شرع الله بالقصاص -الذي يملكه أولياء القتيل مِن القاتل بعينه دون مَن لم يشارك في القتل مِن عائلته، بعد ثبوت البينة أو الاعتراف، مع فتح باب العفو والصفح عنه لأولياء القتيل؛ لا للمجتمع أو القاضي، وهذا العفو والصفح والصلح يكون على الدية أو مجانًا- كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:178-179).

ثم تحول الناس عن شرع الله في ذلك -القصاص- إلى القانون الوضعي الأوروبي الذي يَرى القتل والجرح حقًّا للمجتمع، وليس لأهل القتيل أو الجريح؛ مع أن الفطرة السليمة تجزم بأن هذا الحق مِن ألصَق الحقوق بوَرَثة القتيل، وهم أكثر مَن تضرر بقتله، وتجزم بتعلُّق حق الجرح بالجريح نفسه وهو المتضرر الأول، ثم أغلق القانون الوضعي المأخوذ من تشريعات أوروبا الجاهلية باب العفو والصفح، وجعل مجرد تخفيف العقوبة دون إلغائها للقاضي دون غيره، مع اشتراط شروط ما أنزل الله بها من سلطان لإيقاع حكم الإعدام -كالإصرار والترصد-.

مع أن الشرع لم يشترط في القصاص إلا العمد، والقتل بما يقتل غالبًا؛ فأدَّى هذا الانحراف إلى تحول المجني عليهم إلى الثأر -وللأسف على الطريقة الجاهلية- مِن قتل أي فردٍ عظيمِ القدر في عائلة القاتل، ولو لم يكن له أي مشاركة أو رأي أو تحريض! بل كان ربما ناهيًا عن القتل، مُحَذِّرًا مِن مَغَبَّتِه، ولكنه يُقتل؛ لأنه كبير العائلة وشهيرها وشريفها! ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فكان ذلك من مظاهر القسوة الفظيعة التي لا تُحَلُّ إلا بتطبيق شرع الله، وترك العصبية الجاهلية التي وَضَعت قواعد خارج شرع الله في الرابطة بين الناس.

ولو تأملنا على المستوى الأوسع؛ لوجدنا أن أعظم وجوه القسوة كانت بسبب العصبية الجاهلية؛ فحروب الاحتلال لنهب ثروات الدول الضعيفة واستعباد أهلها كانت بسبب عصبية الرجل الأبيض -الذي هو عندهم "الإنسان"؛ فإذا قالوا حقوق الإنسان فهي حقوق الإنسان الأبيض الأوروبي والأمريكي-، أما الأسود أو الأصفر أو المُلَوَّن فهو خُلِق ليكون عبدًا لدى الأبيض!

ولقد كان لليهود من هذه الجاهلية أكبر نصيب؛ إذ كان تعصبهم للجنس الإسرائيلي واعتباره سيد العالم، وإنما يَشترطون النسب والولادة لأم إسرائيلية يهودية، ولا يَملك الإنسان إذا لم يُولَد كذلك أن يرتفع ويتساوى مع بني إسرائيل؛ فإن أبناء حام في اعتقادهم خُلقوا ليكونوا عبيد العبيد لسادة سادتهم من بني إسرائيل الساميين! وما احتلال فلسطين إلا صورة من صور هذه العصبية الجاهلية ضد المسلمين والعرب أبناء الأَمَة المملوكة -في زعمهم-، مع أنهم هم الذين آووا اليهود ومنعوا عنهم الاضطهاد في المشرق والمغرب عبر العصور، ثم ظهرت -كردود فعل لهذا القدر من الكراهية الهائلة- عصبيات أخرى ضد اليهود، وضد غيرهم.

ولو نظرنا إلى دوافع الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح عشرات الملايين من البشر، غير مئات الملايين من الجرحى، وتخريب المدن والبلاد بأسرها؛ لعلمنا أن عصبية علو الجنس الآري الجرماني لدى النازية الألمانية -والتي لا تزال مشتعلة في كثيرٍ مِن النفوس عندهم والتي تريد أن تستعبد كل الأجناس الأخرى- هي السبب الرئيسي في هذا الخراب والدمار والقسوة.

ولو تأملنا إبادة نحو 150 مليونًا من الهنود الحمر -أُمَّة بأسرها!-؛ لوجدنا أن السبب هو إرادة علو الرجل الأبيض، ثم حملات استعباد الرقيق من أفريقيا -وقد خلقهم الله وولدتهم أمهاتهم أحرارًا-؛ فنُقِلوا قسرًا بأبشع صورة وأقساها إلى الأرض الجديدة؛ ليعمِّروها بالقهر والظلم والتعذيب، ومسخ الهوية؛ فلو تأملنا ذلك لعلمنا خطورة هذا السبب من أسباب أبشع أنواع القسوة.

ولقد كانت العصبية التركية -وما ظهر كردٍّ فعل لها من القومية العربية- أواخر الدولة العثمانية أحد الأسباب الرئيسية في انهيارها، والتي إنما حظيت عند نشأتها بمنزلةٍ في قلوب المسلمين؛ لقيامها بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الدين -لا الجنس التركي-، ثم لما تحولت إلى هذه العصبية الجاهلية -إضافة إلى الخرافة والانحراف العقدي، ومحاربة دعوات الإصلاح- كانت هذه أسبابًا في هزيمتها والثورة ضدها، ولو بالتحالف مع أعداء الأمة -من الإنجليز والفرنسيين وغيرهم- الذين احتلوا معظم بلاد المسلمين.

ولا تزال آثار العصبية التي نَمَّاها الاحتلال الغربي لبلادنا بين العرب والفرس، والعرب والكرد، والترك والكرد، والعرب والترك، من أعظم أسباب الحروب القاسية، والتي تُعانِي الطائفة المغلوبة المقهورة فيها -أيًّا مَن كانت- ألوانًا من الإهانة والإذلال.

هذا ولا يزال التعصب والتشيع الكاذب لأهل البيت هو السبب الرئيسي لأبشع مظاهر القسوة في إيران والعراق، وسوريا ولبنان واليمن، وأجزاء من الجزيرة العربية، والحروب المدمرة التي تُشَن على خلفية أحداث وقعت منذ أكثر من ألف سنة غُيِّرَت عن وجهها، وكُذِب فيها، وأضيف إليها ما ليس منها؛ لمجرد تهييج العصبية ضد أهل السُنَّة وبث روح الانتقام منهم بزعم أنهم الذين قَتَلوا الحسين وآل البيت، وهم لم يجنوا في حقيقة الأمر أي جناية على الشيعة فضلًا عن أئمة أهل البيت الذين هم من أئمة أهل السُنَّة يُجِلُّونهم ويحبونهم ويحترمونهم ويعرفون فضلهم ويَتبرأون ممن قتلهم وآذاهم أو تبرأ منهم، ومع ذلك فالعمى والعصبية هي السبب فيما نرى، وما الحروب الصليبية القديمة والحديثة وغزوات التتار لبلاد الإسلام إلا صورة من صور العصبية الجاهلية.

والعلاج لهذا السبب الخطير من أسباب القسوة: يتمثل في الامتثال لأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالحب في الله والبغض في الله، والولاء لله والعداء من أجله، وترك العصبية الجاهلية، وتربية الأجيال على تحريمها، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) (رواه مسلم).

ولا بد من تعميق روح الإنسانية القائمة على التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1).

ولا بد من ترك الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب واحتقار الناس وازدرائهم على أساس جنسهم أو لونهم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ) (رواه مسلم).

نسأل الله أن يكف عن المسلمين كلَّ سوءٍ وأذى.