البخاري وصحيحه الجامع (5) إتقانه وحفظه للحديث

  • 461
1

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد عاش البخاري -رحمه الله- عصر الرواية التي كان عمادها على الحفظ ثم الكتابة، وقد ضرب المثل في الحفظ والاتقان لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا جاء من سببين:

الأول: توفيق الله -تعالى- لعبده.

والثاني: الدأب في الطلب واستفراغ الوسع.

قال الحسين بن حريث: "لا أعلم أني رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كأنه لم يخلق إلا للحديث. وقال أبو حاتم الرازي: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل، ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه" (الفتح: 1/ 484).

وقد ظهرت علامات النبوغ في الحفظ عليه منذ صغره: قال حاشد بن إسماعيل: "كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فلمناه بعد ستة عشر يومًا، فقال: قد أكثرتم عليَّ فاعرضوا عليَّ ما كتبتم. فأخرجناه، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه!".

وقال محمد بن الأزهر السجستاني: "كنت في مجلس سليمان بن حرب، والبخاري معنا يسمع ولا يكتب. فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب مِن حفظه".

وكان حافظًا لأسماء الرجال وكناهم، وألقابهم وأنسابهم، لا يختلط عليه منها شيئًا؛ ظهر ذلك في مجلس شيخه محمد بن يوسف الفريابي عندما قال: "حدثنا سفيان عن أبي عروة عن أبي الخطاب عن أبي حمزة، فلم يعرف أحد في المجلس مَن فوق سفيان. فقال البخاري لهم: أبو عروة هو معمر بن راشد، وأبو الخطاب هو قتادة بن دعامة، وأبو حمزة هو أنس بن مالك".

ولمَّا ذاع صيته في الحفظ والضبط، كان اقرانه بين الحين والآخر يعقدون له امتحانًا؛ حرصًا منهم على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال أبو الأزهر: "كان بسمرقند أربعمائة محدث، فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة.

وكذا قصته حين قدم بغداد وعقدت له المجالس فأراد محدثوها اختباره فجعلوا أسانيد مائة حديث على غير متونها، وعرضت عليه حديثًا حديثًا يقول لكل منها: "لا أعرفه"، فعلم المحدثون أنه فطِن للأمر، والعوام استهجنوا قوله، وظنوه جاهلًا، فإذا به قبل انتهاء المجلس يصحح ما سمعه، فيرد كل متن إلى إسناده!

قال ابن عدي: "هنا يخضع للبخاري، فما العجب مِن رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة!".

فالبخاري آية في الحفظ والاتقان، استعمله الله -تعالى- لخدمة سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلا يقدح فيه ويتعقب عليه؛ إلا مَن كان مثله، حفظ الألوف من حديث النبي سندًا ومتنًا، واختلطت بشحمه ولحمه، وجرت في عروقه كالدم، وشُغِل بها ذهنه.

أمَّا أن يأتي منتقد، ما حفظ، بل ولا قرأ، فضلًا من أن يكون فهم واستوعب؛ فهذا لا يسمع له، إنما هو مشكك جاهل!