صفات عباد الرحمن (11) اجتناب الزور واللغو

  • 468
1

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- الشاهد على الصفة من الآيات: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان:72).

- مجمل كلام المفسرين في تفسير الآية: والذين لا يشهدون بالكذب، ولا يحضرون مجالسه، وإذا مروا بأهل اللغو من غير قصد، مروا معرضين منكرين، يتنزهون عنه، ولا يرضونه لغيرهم.

(1) قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ):

- مجمل كلام المفسرين في المقصود بذلك على قولين:

الأول: لا يشهدون شهادة الزور، وهي الكذب متعمدًا على الغير، قاله القرطبي وغيره.

الثاني: لا يحضرون مجالس الزور، وهي المشتملة على الكذب والباطل، قاله ابن كثير وغيره.

وقفة مع القول الأول:

- المقصود بشهادة الزور: هي أن يشهد إنسان لآخر أو عليه، بغير ما علم أو سمع، فهي قلب للحقائق، وتضييع للحقوق، وإعانة للظالمين.

- من صورها: (الكذب في الأنساب، والوصايا، والجنايات، والأموال، ونحو ذلك، وكذا تزكية إنسان أو جرحه بما ليس فيه، سواء في الزواج، أو الوظائف والإمارات، ونحوه، وكذا الكذب في التقارير التي تضر بالناس عند الحكام والمسئولين ونحوها، وهكذا... ).

- لذا جاء الترهيب والوعيد الشديد على شهادة الزور: عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ثَلاثًا، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ وَجَلَسَ، وَكانَ مُتَّكِئًا، فَقالَ أَلا وَقَوْلُ الزّورِ قَالَ فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ) (متفق عليه)(1)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم).

وقفة مع القول الثاني:

- وصف العلماء لهذا القول: قال ابن كثير -رحمه الله-: "والأظهر أن المراد: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ): أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال -تعالى-: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)"(2).

حضور مجالس الزور دون نكير أو محاولة تغيير، دليل على ضعف الدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم).

- لذلك أمر الله -عز وجل- بمفارقة أصحاب هذه المجالس إذا لم يستطع التغيير: قال -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء:140)، وقال: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:68).

عاقبة مخالطة مجالس الزور دون نكير ولا تغيير: قال -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).

- مواقف للسلف في هجر المجالس التي تشمل المنكرات: قال البخاري تعليقًا في كتاب النكاح: "باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة؟ وذكر: "وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ، صُورَةً فِي البَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِي البَيْتِ سِتْرًا عَلَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ"(3)، وروى أحمد في الزهد، وأبن حجر في الفتح: "أن رجلًا دعا ابن عمر إلى عرس، فإذا بيته قد ستر بالكرور، فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك؟".

- وعن سعيد ابن المسيب -رحمه الله- قال: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ المَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ، قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا، فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ اليَهُودِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الوِصَالَ فِي الشَّعَرِ" (متفق عليه).

(2) قوله -تعالى-: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا):

- المقصود باللغو: قال السعدي في التفسير: "وهو الكلام الذي لا خير فيه، ولا فائدة دينية ولا دنيوية". وقال السندي في حاشيته على النسائي: "أي: الكلام قليل الجدوى"(4).

- تكرار مدح المؤمنين بذلك دليل على شرف الوصف: قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون:1-3)، وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55).

قال السعدي -رحمه الله- عن اللغو: "وإن كان لا إثم فيه، فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة".

- المؤمن الصالح ينزه نفسه عن اللغو، فيقلب المباحات طاعات بالاحتساب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ) قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: (أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ) (رواه مسلم)، وقال معاذ بن جبل: "أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي" (رواه البخاري).

خاتمة:

- من صفات عباد الرحمن التنزه عن الزور واللغو: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان:72).

- لطيفة في قوله -تعالى-: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ).

قال السعدي -رحمه الله-: "إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي عن غير قصد، يكرمون أنفسهم عنه".

قلتُ: فكيف سيكون حالهم مع الزور والباطل؟!

نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رهَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطر شهادة الزور بثلاثة أنواع من البيان:

(أ) ذكرها في سياق ذكر الكبائر التي تستوجب دخول النار.

(ب) الاهتمام عند ذكرها بالفعل والهيئة، حيث كان متكئًا فجلس، تنبيهًا على تساهل الناس فيها أكثر من الشرك والعقوق. قال الحافظ في الفتح: "إن الاشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق ينصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة: كالعداوة، والحسد، وغيرهما".

(جـ) تعظيمه لخطرها بتكرير القول، حتى تمنى أصحابه أن يسكت من شدة خوفهم من ذلك.

(2) من صور مجالس الزور: (مجالس الغيبة والنميمة، والسب والقذف والاستهزاء، وكذا برامج الفضائيات الداعية إلى الباطل كالعلمانية والليبرالية، والتكفير والتشيع، والتصوف الباطل، وكذلك مجالس مشاهدة الأفلام والمسرحيات والأفراح والاختلاط، وكذلك التجمعات على الشواطئ والمقاهي والموالد...).

(3) فكيف بمجالس الشرور والباطل؟! وقد جاء في روايات: أن ذلك كان في عرس ابن عمر، وقد حضره جمع من الصحابة -رضي الله عنهم- مما جعل العلماء يختلفون في حكم ستر الجدار بين التحريم والإباحة والكراهة.

(4) من صور مجالس اللغو: (مشاهدة المباريات ونحوها، وقضاء الأوقات الطويلة في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وقراءة البوستات ورسائل الواتس والدردشة، وصفحات البيع والشراء، ونحوه، والجلسات الطويلة في الزيارات دون حاجة، ونحو ذلك... ).