عاجل

فضل الإنفاق في سبيل الله

  • 1060
1

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- الجهاد بالمال كمرتبةِ من مراتب جهاد الكفار والمنافقين استنادًا لقوله -صلى الله عليه وسلم: (جاهِدُوا المُشرِكينَ بِأَموالِكُمْ وأَنْفُسِكُم وأَلسِنَتِكُم) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، فالمال عصب الحياة، وذكر الله الجهاد بالمال مع النفس في معظم آيات القرآن، بل جعله مقدمًا أحيانًا، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف:10-11)، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111)، قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "أنفسًا خلقها، وأموالًا رزقها ثم عندما طلبها منهم بخلوا عليه بها"، فثمن الجنة بذل النفس والمال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزَا) (متفق عليه).

لذلك أخاطب بعض الإخوة الأثرياء المنشغلين بالتجارة والكسب، والدنيا والعمل: اكفل طالب علم أو داعية، كأنه عامل عندك أو موظف في عيادتك أو مصنعك، وفرغه للدعوة، تشاركه في الأجر، فكثير من إخواننا العاملين في حقل الدعوة؛ إما سافروا للخارج أو انشغلوا بعمل دنيوي آخر لسد حاجات الحياة، وتركوا أماكنهم الدعوية شاغرة، فكثير من الأعمال الدعوية وسط الشباب والطلائع والقرآن تحتاج إلى هدايا ومسابقات وجوائز، ومحفزات، وإفطارات، ورحلات وأنشطة ترفيهية؛ لجذب الشباب في مقارنة غير متكافئة مع منظمات المجتمع المدني والتغريب وإغراءاتها ووسائلها، وكثير من الملتقيات والأنشطة لا تتم للمعوق المالي أحيانًا؛ بسبب البخل والشح وعدم النفقة.

انظر إلى كم الآيات في سورة البقرة وبراءة وغيرها للإنفاق في غير الزكاة، فكثير من الناس يستعطفهم الفقراء والمرضى والدواء أو بناء المساجد أو النفقة على الأيتام والقرآن، ولكن قليل مَن يفهم النفقة لهداية الشباب والناس، أو إيجاد وتربية كفاءات وكوادر وطلبة علم، ودعاة؛ فهذا خيره متعدٍ، وربما ثواب دروسه وعلمه وكتبه يستمر أكثر من الصدقة الجارية؛ ألا نستحيي من الكفار وإنفاقهم؟! قال -تعالى-: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (الأنفال:36).

رصدت قريش مائة من الإبل بمن يأتي برأس محمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وإيزابيلا صاحبة القميص العتيق في قشتالة بجوار الأندلس رهنت مجوهراتها للإنفاق على رواتب الجند حتى سقطت غرناطة آخر بلاد المسلمين في الأندلس.

الدعوة لا تقوم على فتات الأموال والفائض منها، بل لا بد من البذل والتضحية، وهذا هو الذى يبقى في قبرك وآخرتك، وهذا هو تأمين المستقبل الحقيقي في الجنة، فأهلك ومالك سيرجع ويتركك وحدك في قبرك، ولن يؤنسك وينفعك إلا العمل الصالح فيرجع الأولاد والزوجة الذين عشت من أجلهم يتقاسمون المال الذى تعبت وبذلت من وقتك وحياتك وجهدك في تحصيله وتحاسب أنت عليه، فاعمل لآخرتك واستقطع مبلغًا ثابتًا من دخلك شهريًّا للنفقة على الدعوة، وأبواب الخير على قدر سعتك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (متفق عليه)، وقال:  (دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، (وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ) (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني)، وقال: (سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).

نحتاج إلى أمثال عثمان -رضي الله عنه- مجهز جيش العسرة، وأمثال عبدالرحمن بن عوف، وانخلاع أبي بكر من ماله أكثر من مرة، وأمثال أبي الدحداح، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فكم من الإخوة الآن حصلوا على شرف الدنيا في مستوى المعيشة والسيارات، والبيوت أعلى درجات التشطيب والمظاهر، والحضانات والمدارس الخاصة والأجنبية، والجامعات الخاصة بأموال مهولة شهريًّا وسنويًّا، وتراه يبخل بالنفقة على الدعوة، مع أن الذي سيعود عليك من النفع في الآخرة أعظم بكثير ممن سيعود عليك في الدنيا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) (رواه البخاري)، فالذي تدخره هو مال الورثة وما تنفقه في حياتك هو مالك الحقيقي، فقبل أن ينساك أولادك أنفق وأنت على ظهر الحياة، وأنت تأمل البقاء، وليس عند قرب الموت.

البعض يبخل بثمن الجريدة ولو أخذ الواحد منا 5 أعداد، وأعطى لزميله في العمل أو جاره أو توضع في العيادة أو عند الحلاق ب 15 جنيهًا أسبوعيًّا يعادل كيلو من الفاكهة أو من الحلوى أو العصير أو مصروفًا للأولاد في يوم، ثم نشتكي بعد ذلك من ضعفنا وتسلط الأعداء علينا أو ضياع الفرص والمساحات الدعوية من بين أيدينا، فلا بد من المراجعة للنفس في باب الإنفاق، وأولوياتنا في هذا الباب، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

نسأل الله -عز وجل- أن يقينا شح أنفسنا، وأن ينفعنا بما قلنا، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم آمين.