البخاري وصحيحه الجامع (6) تأليف البخاري لصحيحه

  • 424
1


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن نعم الله على الإمام البخاري أن وفَّقه لحسن التتلمذ على شيوخه، يعي كلامهم، ويفهم مرادهم، ويلبي رغباتهم، قال البخاري -رحمه الله-: "كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله"، قال: "فوقع في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح".

ثم لمَّا ظهر صدقه في سعيه لخدمة السنة جاءه ما يثبته ويدفعه لتحقيق مراده.

قال البخاري -رحمه الله-: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحه أذبُّ عنه، فسألت بعض المعبرين، فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح".

فطاف البخاري البلدان من بخارى شرقًا إلى مصر غربًا، ودخل بغداد حاضرة الخلافة مرارًا، وقصد مكة ليحج، ويرحل بعدها إلى صنعاء باليمن ليسمع مِن محدثها عبد الرزاق، فقيل له: قد مات، فرجع عن رحلته إليها، وكان عبد الرزاق ما زال حيًا، لكنها كانت حيلة من بعض أقرانه لصرفه عن الرحلة إليه حسدًا منهم للبخاري، ستة عشر عامًا يجمع ما وقف عليه من حديث، حتى بلغ ستمائة حديث، ثم عمد إلى أصحها ينتقيه انتقاءً ليضعه في الصحيح.

وكان بداية التصنيف في الحرم المبارك الذي من عنده كان بداية الوحي، وكان البخاري أثناء تصنيفه للصحيح بعد ما يأخذ بالأسباب، يتجرد من حوله وقوته، ويلجأ إلى ربه عند كل حديث ينتقيه بالاستخارة فيه، قال البخاري: "صنفت كتابي هذا في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله -تعالى-، وصليت ركعتين وتيقنت صحته".

وكان البخاري يعيش في عصر الرواية، ويعلم أن هناك جهابذة يحفظون السنة كما يحفظون القرآن، وإنهم إذا انتقدوا سيقع نقدهم موقعًا يصرف الناس عن الكتاب؛ فأتقن كتابه وضبطه في بخارى بحضور كتبه وأصوله.

وقد حَرِص البخاري على الدقّة والتثبّت في إخراج الكتاب، فأعاد النظر فيه عدّة مرات وتعاهده بالتهذيب والتنقيح، ولم يكد يتم تصنيفه حتى عرضه على شيوخه وأساتذته ليعرف رأيهم فيه، ومنهم علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة.

قال العقيلي: "لما ألّف البخاري كتابه الصحيح عرضه على ابن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: "كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث" قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة".

فصحيح البخاري -كما ظهر- ليس جهدًا فرديًّا -كما يدعي البعض- ويوجهون سهامهم نحو هذا الفرد، إنما هو جهد جماعي منظم، نظر فيه جهابذة العلم وناقشوه فيه، قبل أن يخرج للناس، فانتقاده الآن ليس انتقادًا لكتاب أو لمصنفه، إنما هو انتقاد لأعلام الأمة، وأعمدة السنة من زمانهم إلى يوم الناس هذا، فعلي ابن المديني لن يجامل البخاري وقد سئل ابن المديني لما قدم بغداد عن حال أبيه في الرواية، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وعيناه تدمعان، وقال: "إنه دين؛ أبي ضعيف الحديث!"، ويحيى بن معين الذي عرف بتشدده في الرجال فمن زكاه يحيى فلا تنظر لكلام غيره، وابن حنبل الذي تعرض للفتنة وثبت ناصرًا للسنة؛ هل يجامل هؤلاء البخاري، ويخونون أنفسهم والأمة من بعدهم؟!

ولم يصرِّح البخاري بشرط قبول الحديث في صحيحه، ولكن استنبط المحدثون شرطه من كتابه، فقال أبو بكر الحازمي: "إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمَن أخذوا عنه ملازمة طويلة سفرًا وحضرًا، وإنه قد يخرج أحيانًا ما يعتمده عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة".

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "اشترط البخاري ومسلم الثقة والاشتهار. قال: وقد تركا أشياء تركها قريب، وأشياء لا وجه لتركها، فمما تركه البخاري الرواية عن حماد بن سلمة مع علمه بثقته؛ لأنه قيل: إنه كان له ربيب يدخل في حديثه ما ليس منه، وترك الرواية عن سهيل بن أبي صالح؛ لأنه قد تكلم في سماعه من أبيه، وقيل: صحيفة".

فخرج الصحيح كتابًا يقصده مَن يريد الحديث والرواية، ومَن يريد الفقه ايضًا، لأن البخاري قصد في صحيحه إلى إبراز فقه الحديث الصحيح، واستنباط الفوائد منه، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم للكتاب -أي عناوين له-، فيذكر متن الحديث بغير سند، وقد يحذف من أول الإسناد واحدًا فأكثر، وهذان النوعان يعرفان بالتعليق، وقد يكرر الحديث في مواضع كثيرة من كتابه يشير في كل منها إلى فائدة تستنبط من الحديث، وذكر في تراجم الأبواب الكثير من الآيات والأحاديث وفتاوى الصحابة والتابعين؛ ليبيِّن بها فقه الباب والاستدلال له، حتى اشتهر أن "فقه البخاري في تراجمه".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.