صفات عباد الرحمن (14) الإمامة في الدين (القدوة الصالحة)

  • 306

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الشاهد للصفة من الآيات: قوله -تعالى-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74).

قال البخاري -رحمه الله-: "أئمة، نقتدي بمَن قبلنا، ويقتدي بنا مَن بعدنا".

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فاجعلنا أئمة لمَن اقتدى بنا ويأتم، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى" (مجموع الفتاوى 3/ 91)، وقال النخعي: "لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين، وهذا حسن أن يطلب ويسعى له" (تفسير القرطبي وابن عطية)، وروى مالك في الموطأ: "كان ابن عمر يدعو: اللهم اجعلني من أئمة المتقين".

- هكذا عباد الرحمن، فبعد صلاحهم في أنفسهم، وسعيهم في اصلاح أهليهم وذرياتهم، يعملون على إصلاح سائر الناس، بأن يكونوا قدوة صالحة لهم على جميع المستويات: قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مَن استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيه، إمامًا لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب".

(1) فضل الإمامة في الدين وأثرها في الاستجابة:

- أرشد الله -سبحانه- المؤمنين إلى التأسي والاقتداء بأئمة الدين: قال -تعالى- لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة:4)، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90)، وقال لعموم المؤمنين: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21).

- القدوة الصالحة من أعظم أسباب استجابة الغير وامتثاله: ففي حديث الحديبية: "... فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْكِتَابِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْحَرُوا وَاحْلِقُوا) قَالَ: فَمَا قَامَ أَحَدٌ، قَالَ: ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، حَتَّى عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ، مَا شَأْنُ النَّاسِ؟) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلَهُمْ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَلَا تُكَلِّمَنَّ مِنْهُمْ إِنْسَانًا، وَاعْمِدْ إِلَى هَدْيِكَ حَيْثُ كَانَ فَانْحَرْهُ وَاحْلِقْ، فَلَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَحَلَقَ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ... " (رواه البخاري وأبو داود، وأحمد واللفظ له)، وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: مَا نَسِيتُ قَوْلَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يُعَاطِيهِمُ اللَّبَنَ، وَقَدْ اغْبَرَّ شَعْرُ صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وعند البخاري ومسلم: فأجابوا: "نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا".

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَهُوَ يُنَاوِلُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ: (أَلَا إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) (رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ)، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع عظيم شدته وغلظته أحيانًا، يحبه أصحابه وينصاعون لرأيه؛ لما كان منه مِن اتصاف بالقدوة الصالحة، والأمثلة على ذلك قد امتلأت بها كتب السير والتراجم.

(2) سبيل الوصول إلى إمامة الدين (القدوة الصالحة):

- إمامة الدين (القدوة الحسنة) لا تُنال إلا بعمل وصبر ويقين: قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

- أهمية العمل في الوصول إلى إمامة الدين: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود:88)، وقال (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) (البقرة:44)، (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف:95).

- أهمية الاستقامة وتجنب الشبهات للوصول إلى إمامة الدين: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود:88)، وعن نافع مولى عمر بن الخطاب: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا هُوَ مَدَر، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ، لَقَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ" (رواه مالك في الموطأ، كتاب الحج).

- نماذج من الذين نالوا الإمامة في الدين: (أبوبكر الصديق الذي حفظ الله به الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم - أحمد بن حنبل الذي حفظ الله به العقيدة والسنة زمن محنة العلماء - البخاري الذي حفظ الله به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب المسلمين - ابن تيمية الذي فتح الله عليه في جميع الفنون والعلوم، لما قام ينصر الدين - الألباني ودوره العظيم في إحياء علم الحديث في زمن محنته).

(3) الحذر مِن أئمة الضلال والشر، والقدوة الفاسدة:

- كما يوجد أئمة للهدى، فهناك أئمة للضلال والشر، شعارهم: "واجعلنا للمفسدين إمامًا!": قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ) (القصص:41)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).  

- قائدهم إبليس ومؤخرتهم كل مَن دعا وأعان على معصية وشر(1): (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم:22).

خاتمة:

- فيا أيها المسلم أينما كنت... كن إمامًا في الخير، وقدوة صالحة للغير، ولا تحقرن من عمل الخير شيئًا: قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مَن استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيه، إمامًا لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ) (رواه مسلم).

- هكذا عباد الرحمن... فبعد إصلاح أنفسهم، وإصلاحهم لأهليهم وذرياتهم، يعملون على إصلاح غيرهم بأن يكونوا لهم قدوة صالحة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا . أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) (الفرقان:74-75).

وللجديث بقية -إن شاء الله- حول خاتمة الصفات: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا).

جعلنا الله وإياكم منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ابتداءً بالذين يبِّدلون دين الله وشرعه، ويخترعون النظم الكافرة المجابهة لدين الله، ويأخذون الناس إلى ذلك، ورؤوس أهل البدع، مرورًا بالدعاة إلى المعاصي والعري والفجور، ونشر الأخلاق الفاسدة، وانتهاءً بأصحاب المعاصي التي يقلدهم الناس فيها ولو كانت مما يحتقرون، ومن أمثلة ذلك: السلوكيات القادحة في المروءة من الأقوال والافعال إذا اقتدى بها الناس (التدخين - الأغاني - التبرج - الاختلاط - حلق اللحية - الألفاظ والعبارات المأخوذة من الممثلين والإعلاميين، ونحو ذلك).