البخاري وصحيحه الجامع (9) عناية الأمة بالصحيح

  • 1001

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمنذ أن نشر البخاري كتابه بين الناس، فإنهم تلقوه بالقبول، واعتنت به الأمة اهتمامًا كبيرًا، فبعد ما سمعه من البخاري أو عليه، الألوف من الرواة وتنتشر روايته بين الأمصار حتى أثَّر ذلك في التصنيفات الحديثية المتأخرة، فأصبح المصنفون في الحديث كالبيهقي وغيره يعتنون بالتعليق على الأحاديث التي يسوقونها بأسانيدهم بقوله: "أخرجه البخاري"، ويعني آخرون ببيان الموافقة والبدل والمساواة لأسانيد وطرق البخاري.

وفي دائرة أوسع: ظهر اهتمام كبير بعملية شروح الصحيح، ولقد أوصل بعض العلماء عدد شروح البخاري إلى نيف وثلاثين ومائة، ومن أشهرها: "أعلام السنن" للخطابي (ت: 388 هـ)، و"الكوكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرماني (ت: 786هـ)، وشرح ابن بطال، وشرح الزركشي، وفتح الباري لابن رجب الحنبلي وهو غير مكتمل، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني توفي 852 هـ، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري لمحمد بن محمود العيني توفي 855 هـ، وإرشاد الساري للقسطلاني توفي 923 هـ، وكوثر الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري لمحمد الخضر الشنقيطي، وغيرها.

وقبل ذلك ظهرت صورة أخرى من صور الاهتمام وهي: "المستخرجات"، وهي: عبارة عن إخراج محدث أحاديث كتاب معين بأسانيد غير أسانيد المصنف يلتقي معه في شيخه أو مِن علاه، ومِن هذه المستخرجات: مستخرج أبي بكر الإسماعيلي (371هـ)، ومستخرج أبي احمد الغطريفي (377هـ)، ومستخرج أبي بكر بن مردويه الأصبهاني (410هـ)، وغيرهم من أصحاب المستخرجات.

ومِن العلماء مَن صنَّف المستدركات على الصحيحين: كالحاكم (405هـ) صاحب "المستدرك"، وقد لخصه الذهبي، والدارقطني (385هـ)  في كتابه: "الإلزامات".

ومِن صور الاهتمام أيضًا التي انتشرت مؤلفاتها: كتب تراجم رجال البخاري منفردة أو مع رجال مسلم، ومن أهمها: الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم البخاري في جامعه، لأبي نصر الكلاباذي (ت398هـ)، وغاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام، لمحمد بن داود البازلي (ت 925هـ)، وأسامي مَن روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري من مشايخه الذين ذكرهم في جامعه، للحافظ أبي أحمد بن عدي (ت 365هـ)، وأسامي مشايخ البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده (ت395)،و التعريف بشيوخ حدَّث عنهم محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه، وأهمل أنسابهم، وذكر ما يعرفونه به من قبائلهم وبلدانهم، لأبي علي الحسن بن محمد الجياني الغساني (ت 498هـ)، وأسامي شيوخ أبي عبد الله البخاري، وكناهم وأنسابهم وتواريخ وفياتهم، وأسامي من رووا عنهم وكناهم وأنسابهم للإمام رضي الدين الحسن الصَّغّاني (ت650هـ)، وغيرها من المصنفات.

ولتقريب مادة الصحيح لمن لا يرغب في مطالعة الأسانيد تصدى عددٌ من العلماء لاختصار الصحيح، ومِن أهم الاختصارات: المختصر النصيح للمهاب بن أبي صفرة الأندلسي (ت: 435هـ)، والتجريد الصريح للزبيدي (ت: 893هـ).

وهناك مِن صور العناية بالصحيح مَن صنف في الجمع بين أحاديث البخاري ومسلم، ومنهم مَن صنف في تراجم أبواب البخاري، ومنهم مَن اهتم بوصل معلقاته، وآخرون اهتموا ببيان غريب ألفاظه، وإلى يوم الناس هذا ما زال الصحيح بحرًا لا ينضب ماؤه، نهل منه الباحثون في رسائل الماجستير والدكتوراة والأبحاث الأكاديمية؛ مما يعطي صورة واضحة لمكانة الصحيح، وأنه لم تطوَ دفتاه يومًا عن العلماء، فلا يُسمع لمشككٍ يشكك في صحته وثبوته! ويترك هذا الجمع الغفير من علماء الأمة المجمعين على علو مكانته.