مظاهر القسوة في مجتمعنا أسباب وعلاج (12) الاضطرابات الأسرية

  • 502

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتعد الآية الكريمة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا . وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء:34-35).

تعد الآيتان أساس الاستقرار الأسري بما تضمنته من قواعد عظيمة في كل كلماتها؛ إذا التزم بها الناس، ظل بناء الأسرة الذي هو أصل بناء المجتمع تحت ظلال السكينة والمودة والرحمة، ومخالفة أي قاعدة منها يؤدي إلى الشقاق والاضطراب؛ الذي يؤدي إلى  القسوة والغلظة بين الزوجين، ثم على الأبناء وبينهم؛ فيترتب نشأة أجيال لم تذق دفء حنان الأسرة الهادئة؛ فتصب آثار ما تعرضت له على المجتمع؛ فنرى هذه الأمثلة العجيبة من الانحراف السلوكي والأخلاقي، والعملي العنيف، الذي صار يهدد المجتمع؛ ولذا لا بد من تدبر هذه الآية وفهمها والعمل بما فيها.

 قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "يقول -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، أي: الرجل قيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت. (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛ ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك المُلك الأعظم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) (رواه البخاري)، وكذا منصب القضاء، وغير ذلك".

قلتُ: مقصوده في تفضيل الرجل على المرأة، في النوع والمجموع؛ لا أنَّ كل رجل أفضل من كل امرأة؛ بل كثير من النساء خير من كثير من الرجال، ولكن المقصود في الجنس؛ وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- فضَّل الرجال بكمال العقل وكمال الدين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء: (وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ) (متفق عليه)، فالمرأة في أصل خلقتها فيها نقص، وهذا أمر مشاهد معلوم، كما أن ما كُلف به الرجال من العبادات الدينية، أعظم وأفضل مما كُلفت به النساء.

 قال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، أي: من المهور والنفقات، والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيِّمًا عليها، كما قال الله -تعالى-: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة:228).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، يعني: أمراء عليهن؛ أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله، وكذا قال مقاتل، والسدي، والضحاك" (انتهى).

قلتُ: والمقصود إحسان الخلق، وعدم البذاء مع أهله؛ وليس لزوم الخدمة؛ فإنه لا يختلف العلماء -فيما أعلم- أن المرأة لا يلزمها غير خدمة زوجها وأولاده منها، وأما بقية أهله؛ فإن فعلت فقد أحسنت، حتى والديه، وإنما هذا أمر واجب على الرجل.

 قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تشكو أن زوجها لطمها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: القصاص؛ فأنزل الله -عز وجل-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) الآية، فرجعت بغير قصاص. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه. وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة، وابن جريج والسدي؛ أورد ذلك كله ابن جرير. وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأبَنَّ وجهَها، أو فأثر في وجهها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس له ذلك. فأنزل الله -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (أي في الأدب)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أردت أمرًا، وأراد الله غيره" (انتهى).

قلتُ: هذا الحديث ضعيف لا يثبت من طرقه كلها؛ فكل طرقه مرسلة إلا هذه الرواية المرفوعة عن علي -رضي الله عنه-، وهي منقطعة بين محمد الباقر وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فلا يثبت هذا الحديث، مع كونه منكرًا مِن جهة المتن؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) (رواه مسلم)؛ فكيف بالمرأة الضعيفة تحت أسر زوجها؟! لا يجوز أن يضربها على وجهها، وكذا ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: (أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فلطم الوجه محرم، لا دليل على استثناء أحد منه، وضرب الوجه ليس تأديبًا مشروعًا، وإنما هو انتقام وإهانة وإذلال، لا يجوز بين زوج وزوجة، بين أم أو أب وأبنائهما، لا يجوز بين معلم ومتعلم، أو شيخ وتلميذ، فإن ذلك لا يحل بأي صورة من الصور، وكذلك لا يحل في القتال بين مسلم ومسلم، وكذا مُعاهَد؛ لأن التعليل بأن الله خلق آدم على صورته يشمل كل إنسان كرمه الله -عز وجل- بهذه الخلقة، وسوَّاه بيده -سبحانه وتعالى-.

 قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال الشعبي في هذه الآية: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، قال: الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قذفها لاعنها، ولو قذفته جُلدت؟!" (انتهى).

قلتُ: لا شك أن الصداق جزء مما أنفق الرجل من أمواله، وكذلك نفقته المستمرة التي رغَّب فيها الشرع، وجعلها من أعظم الصدقات، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) (رواه مسلم)، وعن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ، دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ". ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمْ" (رواه مسلم والترمذي).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: فَالشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُعْطِي حَقَّ مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ" (رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه، والترمذي وابن حبان على ضعفٍ يسيرٍ فيه)، ورغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في وضع الطعام في فم المرأة إنفاقًا ومداعبة؛ فقال لسعد -رضي الله عنه-: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ) (متفق عليه).

فإذا ترك الرجل فضيلته بضعف دينه، وارتكاب المنكرات وترك الواجبات؛ فقد مِن قوامته بقدر ما فقد مِن فضله، وكذلك إن ترك فضل العقل؛ فتعامل بالسفه وردَّ على الجهالة بجهالة؛ فقد فَقَدَ من قوامته بقدره كذلك، وإن فاقته المرأة في دينها أو عقلها كان كحال ملكة سبأ بلقيس مع قومها، الذين لا يفقهون الأمور على حقيقتها؛ فقالوا في جواب رسالة سليمان -عليه السلام-: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل:33)، ولو أطاعتهم لدمروا بلادهم وقومهم، ولكن بعقلها ردَّها الله إلى الحق وإلى التبعية لسليمان -عليه السلام-؛ فانتظم أمرهم بعودتهم إلى قوامة الرجل الصالح.

وليست القوامة بمجرد الذكورة؛ بل بفضل الدين والعقل، وكذلك بإنفاق المال؛ فإذا لم ينفق الرجل على أسرته فقد قوامته، وعرَّض أساس الأسرة للاهتزاز؛ ككثير من الرجال في زماننا يتركون أسرهم بلا نفقة؛ حتى تضطر الزوجة للتكسب على نفسها وأولادها، وهذا عين القسوة من الرجل عليهم، والظلم والعدوان طالما كان قادرًا على الكسب، وإنما وجبت طاعة المرأة الصالحة لزوجها القوَّام عليها بفضل عقله ودينه ونفقته؛ فعند حصول هذه الأسباب يحصل الصلاح من المرأة، والقنوت وهو الطاعة، وهي طاعة لله بطاعة الزوج.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.