مظاهر القسوة في حياتنا أسباب وعلاج (13) الاضطرابات الأسرية (2)

  • 526

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقوامة الرجل على المرأة مصلحة للمرأة كما هي مصلحة للرجل والأولاد، وهي سبب لتحصيل الصلاح؛ لذا ذكر الله -سبحانه وتعالى- صلاح المرأة بعد ذكر قوامة الرجل بفضل عقله ودينه ونفقته، فقال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء:34).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "(فَالصَّالِحَاتُ) أي مِن النساء، (قَانِتَاتٌ): قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن، (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ) قال السدي وغيره: "أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقوله: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ): أي المحفوظ مَن حفظه الله.

روى ابن جرير عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير النساء امرأة؛ إذا نظرْتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمَرْتَها أطاعتْك، وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْك في نفْسِها ومالِك"، قال: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: "الرجال قوامون على النساء" إلى آخرها.

وقد وردت الأدلة الكثيرة على تأكيد طاعة المرأة لزوجها، وذلك في ثلاثة أشياء؛ تسليم نفسها، ولزوم بيته، وخدمته وخدمة أولاده منها -كما سبق بيانه-، ولا يجوز أن يظن بعض الرجال أن ما ورد من الأدلة المطلقة بالطاعة تعني إلزامها بما لا يلزمها شرعًا؛ كهبة مالها له، أو خدمة أهله -غير أولاده- دون رضاها، فهذه الأدلة المطلقة قد قيدتها الأدلة الأخرى، وكذا الإجماع، فلا بد أن يعرف كل واحد حدود الطاعة الواجبة والمستحبة كما بينتها أدلة الكتاب والسنة.

 ومن هذه الأدلة المتكاثرة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو كنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجُدَ لأحدٍ لأَمَرْتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوجِهَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

 وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان أهلُ بيتٍ من الأنصار لهم جملٌ يسنون عليه -أي يسقون-، وأنه استصعب عليهم؛ فمنعهم ظهْرَه، وإنَّ الأنصارَ جاءوا إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنه كان لنا جملٌ نُسْنِي عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهْرَه، وقد عطش الزرعُ والنخلُ؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوموا؛ فقاموا فدخل الحائطَ والجمَلُ في ناحية؛ فمشى النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه؛ فقالت الأنصار: يا رسول الله قد صار مثل الكلب نخاف عليك إصابتَه، قال ليس عليَّ منه بأسٌ، فلما نظر الجملُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوَه حتى خرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناصيته أذل ما كانت قط، حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابُه: يا رسولَ اللهِ هذه بهيمةٌ لا يعقل يسجد لك ونحن نعقل؛ فنحن أحقُ أن نسجدَ لك، قال: (لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وهو محمول على المبالغة وإلّا فلا يلزم لحس الصديد اتفاقًا.

وعن ابن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا هَذَا؟)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِمْتُ الشَّامَ، فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، قَالَ: (فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْتُ شَيْئًا أَنْ يَسْجُدَ لِشَيْءٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا) (رواه ابن ماجه وابن حبان، وصححه الألباني).

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أُخْبِرُكُم بِرِجالِكم في الجنَّةِ؟). قلنا: بَلى يا رسولَ الله! قال: (النبيُّ في الجنَّةِ، والصدِّيقُ في الجنَّةِ، والرجلُ يزورُ أخاه في ناحِيَةِ المصْر، لا يزورُهُ إلا لله في الجَنَّةِ. أَلا أُخْبِرُكُمْ بنِسائِكُم في الجَنَّةِ؟). قلنا: بلى يا رسولَ الله! قال: (كلُّ وَدُودٍ وَلودٍ، إذا غَضِبَتْ، أوْ أُسِيءَ إليْها، أو غَضِبَ زوْجُها قالتْ: هذه يدي في يَدِك، لا أَكْتَحِلُ بغَمْضٍ حتى تَرْضَى) (رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (متفق عليه)، ومعنى ذلك: ألا تأذن لأحدٍ من أقاربها -إن منع الزوج ذلك-؛ فضلًا عن الأجانب.

وعن زيد بن الأرقم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (المرْأَةُ لا تُؤَدِّي حَقِّ الله حتى تُؤَدِّيَ حقَّ زوْجِها، حتَّى لوْ سَألها وهيَ على ظَهْرِ قَتَبٍ لمْ تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا ينظُرُ الله إلى امْرأةٍ لَا تَشْكُرُ لزوْجِها؛ وَهِيَ لَا تَستَغْني عَنْهُ) (رواه النسائي في السنن الكبرى والبزار، وصححه الألباني).

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الحُورِ العِينِ: لَا تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ اللَّهُ، فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكَ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن طلْق بن علي -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا الرَّجُلُ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلَمْ تَأْتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) (متفق عليه).

ومن أعظم أسباب الاستقرار داخل الأسرة: حفظ أسرار منزل الزوجية، وحل المشاكل داخليًّا، وعدم اطلاع الناس على العورات الظاهرة والباطنة؛ فأما العورات الظاهرة، فمثل: الحديث بما يجري بين الزوجين من أمور المعاشرة والجماع، وللأسف انتشر في زماننا تصوير العلاقة الحميمة بين الزوجين والعورات مكشوفة، والهواتف المحمولة يسهل اختراقها، أو عند ضياعها تقع في يد أجنبي، وما أسهل حل شفرات الأجهزة، وفك الكلمات السرية؛ حتى يطلع على ما في الجهاز! فلا يجوز هذا الفعل من رجل أو امرأة، ولا يجوز أن تقبل المرأة ذلك؛ لسد ذريعة انكشافها، كما أنه مِن سوء خلق الكثيرين عند الخصومة استخدام هذه الصور والفيديوهات في الفضيحة؛ والتي هي في الحقيقة فضح لنفسه، وقدح في دينه وعرضه، وإجرام في حق أهله وولده.

وقد وردت أدلة كثيرة بتحريم نشر ما يجري بين الزوجين، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا).

وعن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-: أنها كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجال والنساء قعودٌ عنده؛ فقال لعل رجلًا يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأةً تخبر بما فعلت مع زوجها فأرَمَّ القوم؛ فقلت: إي واللهِ يا رسول الله إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن؛ قال: (فلَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا عَسَى أَحَدَكم أنْ يخْلُوَ بأهلهِ؛ يُغْلِقُ بابًا؛ ثُمَّ يرخي سِتْرًا، ثمَّ يقْضي حاجَتَه، ثُمَّ إذا خَرج حَدَّثَ أصْحابَه بِذَلِك. ألا عَسَى إحْداكُنَّ أنْ تُغْلِقَ بابَها، وتُرخي سِتْرها، فإذا قَضَتْ حاجَتها حَدَّثَتْ صَواحِبَها). فقالتِ امْرأَةٌ سَفْعاءُ الخدَّينِ: والله يا رسول الله! إنَّهُن ليَفْعَلْنَ، وإنَّهُمْ لَيفْعلون، قال: (فلا تَفْعَلوا، فإنّمَا مثلُ ذلك مثلُ شيْطانٍ، لقِيَ شيطانَة على قارِعَةِ الطريقِ، فَقَضى حاجَتَهُ مِنْها، ثُمَّ انْصرفَ وتَرَكَهَا) (رواه البزار، وقال الألباني: حسن لغيره).

هذا في العورات الظاهرة، أما العورات الباطنة؛ كالخلافات التي تجري بين الزوجين ونحوها من الاطلاع على بعض السلبيات، فلا بد أن تحل داخل البيت ما أمكن السبيل إلى ذلك.

ومِن أكبر أسباب الفساد: تدخل أطرف جاهلة فيما يجري بين الزوجين، وتعظيم روح العصبية الجاهلية بين عائلة الزوج والزوجة؛ كأنهم في معركة، أعداء لا بد وأن ينتصر أحدهم على الآخر؛ فإذا تفاقمت المشاكل فلا بد من سلوك الطريق الذي ذكره الله -سبحانه وتعالى- في كتابه في قوله: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء:34).

وهذا ما سنذكره تفصيلًا المرة القادمة -إن شاء الله-.