من أخلاق السلف -رضي الله عنهم- (4)

  • 653

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من أخلاقهم -رضي الله عنهم-:

تمني الموت إذا خافوا على أنفسهم الوقوع فيما يسخط الله -عز وجل-، وذلك بأمارات تظهر لهم من أنفسهم هي كالمقدمات للمعاصي.

والأصل أن المؤمن لا يتمنى إلا إذا خاف فتنة في الدين؛ وذلك لأن المؤمن لا يزداد من الدنيا إلا خيرًا.

وقد قال بعض السلف: "كل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة".

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ وَلاَ يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلاَّ خَيْراً) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، ولكن إذا كثرت الفتن وخاف المؤمن على دينه، فيستحب له عند ذلك أن يتمنى الموت ويدعو به، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى: (وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ،) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قال العلامة منير الدين الدمشقي: "هذه الفقرة من جوامع الأدعية وفيها الخير العظيم لمن أمعن النظر بدقائقها؛ وذلك لأنها برهان قاطع على صحة إيمان الذي دعا بها، وذلك لأنه رضي بذهاب الروح من جسده، وقدمها ضحية وقربانًا ليتخلص من فتنة قد تكون سببًا لعذاب دائم، فلولا أنه مؤمن حقًّا لما فادى بحياته واختار الموت، فهو مؤمن بالله واليوم الآخر والعذاب والنعيم، وبلغ من الخشية أن يختار الموت على عيشة ممزوجة بالفتنة، علمًا أن التيار لا يمكن الوقوف أمامه، فإذا حصل لقوم فتنة فإنه يعلم أن قيامة في وجه هذه الفتنة قد لا يجديه نفعًا إذا سرى مرضها في النفوس، واشتد غضب الله عليهم؛ ولذلك استعد للأمر قبل وقوعه، فدعا ربه القادر وحده على تخليصه من هذه المصيبة، كي لا تصيبه نار الفتنة، فلا يختار الدنيا على الآخرة. وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: سيأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى العلماء فيه من الذهب الأحمر، حتى يأتي الرجل قبر أخيه، فيقول: ليتني كنت مكانه. وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم".

ومن أخلاقهم رضي الله عنهم:

كثرة خوفهم من الله -تعالى- في حال بدايتهم وحال نهايتهم، لكن في حال بدايتهم من الذنوب وخوف العذاب، وفي حال نهايتهم خوف الإجلال، وخوف سوء الخاتمة، قال الله -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46)، وقال -عز وجل-: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

كان أبو تراب النخعي يقول: "إذا أجمع الرجل على ترك الذنوب أتته الإمدادات من الله -عز وجل- من كل جانب، ومن علامة سواد القلب ثلاث: ألا يجد للذنوب مفزعًا، ولا للطاعة موقعًا، ولا للموعظة منجعًا".

وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "من علامة من غرق في الذنوب، عدم انشراح صدره لصيام النهار وقيام الليل".

وقال بعضهم: لو لم يكن في الطاعة إلا ظهور نور الوجه وبهاؤه، والمحبة في القلوب، والقوة في الجوارح، والأمن على النفس، والتجوز في الشهادة على الناس، لكان في ذلك كفاية في ترك الذنوب، ولو لم يكن في المعصية إلا النكارة في الوجه، والظلمة في القلب واللعنة في الذكر، والإسقاط في الشهادة، والخوف على النفس، لكان في ذلك كفاية، فيجعل الله -تعالى- لكل من الطائع والعاصي أمارات ليفرح هذا ويحزن هذا.

وقد قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30).

قال بعض السلف: "إنما تقول الملائكة ذلك لمن طال خوفه من الله -عز وجل- وحزنه مما فرط منه، أما مَن لم يخف الله -عز وجل-، ولم يحزن على ما فاته من الخير، فلا يقال له شيء من ذلك".