مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (17)

  • 562

الاضطرابات الأسرية (2) التفكك الأسري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زلنا نطيل النَّفَس في الاضطرابات الأسرية في وجود القسوة في المجتمع؛ لخطورة هذا الأمر، وإن مِن أكبر أسباب الاضطراب داخل الأسرة التفكك الأسري، وضعف العلاقة بين الزوج والزوجة، وبين الأب وأبنائه وبناته، وبين الأم وأبنائها وبناتها، وقد تعمدتُ التفصيل لنؤكِّد أن الأب له مسئولية مع الأبناء والبنات كذلك، وليس مع الأبناء فقط، وأن للأم مسئولية مع الأبناء كما هي مع البنات أيضًا، وليس مع البنات فقط كما يتصوره البعض.

 وقد يكون هذا التفكك وضعف العلاقة بسبب التباعد الحسي؛ بسبب السفر الذي لا تجتمع فيه الأسرة، والأغلب في ذلك سفر الزوج -الأب- للكسب، وتوفير ما يسمى بالحياة الكريمة، وغالبًا ما يقتضي هذا الهدف -كسب المال-: عدم سفر الزوجة والأولاد مع أبيهم؛ ليتمكن من توفير أكبر قدرٍ ممكن من المال؛ وإلا كان السفر غير محقق لغايته لو سافرت الأسرة معه لزيادة النفقات.

وربما كان السبب في عدم وحدة الأسرة ولم شملها: النظم الإدارية الحاكمة التي تمنع استقدام الزوجة والأولاد، وفي بعض البلاد الأجنبية التي تمنع تعدد الزوجات، ويكون أيسر طريق للحصول على الإقامة فيها التزوج من مواطنة للدولة، وطلاق الزوجة الأولى، ولربما كان ذلك شكليًّا؛ إلا أن له أحكامه الشرعية، كما أن له الآثار المدمرة على نفسية المرأة والأولاد في أولويات التضحية لدى الزوج والأب.

ولا شك أن هذا التباعد الحسي بين أفراد الأسرة يؤدي إلى التفكك الشديد، وضعف العلاقة المبنية على السكن والمودة والرحمة، كما ذكر الله -عز وجل-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)، ولقد فطن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى هذا المعنى حين منع أن تزيد مدة غياب الأجناد في الغزو عن ستة أشهر؛ وذلك حتى لا تلجأ الزوجة إلى أحد حلين -حسب تقواها وخوفها من الله-: إما أن تقع في الحرام، وإما أن تجتهد في إماتة عاطفتها، وتفكيرها في شريك حياتها؛ حتى تحتمل الحياة بدونه الفترة الطويلة، ولا شك أن غيبة الزوج من الأسباب المبيحة لطلب الطلاق للضرر؛ هذا هو الصحيح الراجح من أقوال العلماء خلافًا لمن لم يعتبره؛ فإن الغيبة الطويلة أكثر من ستة أشهر أو أربعة أشهر -على القول الآخر- بغير عذرٍ ترضى به المرأة -التي لها حق في العشرة، والسكينة والحب والتراحم- بنص الكتاب يعتبر إضرارًا بالزوجة.

والحقيقة: أن مفهوم الحياة الكريمة قد تغيَّر كثيرًا عند الناس عما كان عليه زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح -رضي الله عنهم- من معنى الكفاية، والكسب الحلال، وسد الحاجات الأساسية دون توسع في تحسينات الحياة، وأنواع الترف فيها، إلى معنى البحث عن جميع الكماليات؛ التي عاش آباؤنا وأمهاتنا بدونها سنين طويلة، أما أجدادنا وجداتنا فلم يروها بأعينهم أصلًا، وظلت حياتهم مستقرة من دونها، وقراءة يسيرة في فصل عيش السلف، وفي زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في كتاب: "الترغيب والترهيب"؛ تعطيك فكرة واضحة المعالم عن طريقة حياتهم وطريقة حياتنا!

فقد تحولت هذه الكماليات في حياتنا إلى ضروريات، لا يتصور الناس حياتهم بدونها، وربما انتحر بعضهم -أو بعضهن- إذا فقد هذه الكماليات، وفي ذلك قصص معروفة، أنا أعرف بعضها شخصيًا.

وصار الافتخار عند الزواج، وعرض هذه الكماليات عند تأسيس منزل الزوجية أمرًا عاديًا لا يستنكره أحد إلا مَن رحم الله!

ولقد أٌخبرتُ عن عشرات، بل مئات الحالات التي صارت أنواع الغسالات الكهربائية -التي تصل إلى أربعة أنواع على سبيل المثال- مطلبًا أساسيًّا تستشعر مَن لم تحظَ بها بالتعاسة والدونية والفقر؛ هذا المستوى للعيش يحتاج استمراره إلى نفقة عالية؛ فيقتضي ذلك سفر الزوج سنين طويلة بعيدًا عن زوجته، وكم علمتُ مِن قصص لفشل الحياة الزوجية، ومرض الأبناء والبنات نفسيًّا؛ بسبب السنين الطويلة من سفر الزوج والأب، وعدم مجيئه إلا شهرًا أو أقل كل عام، يحاول خلاله تعويض المفقود من السكينة والمودة والرحمة بالمزيد من الإنفاق، والبذخ في الترفيه، ثم هو يشتكي أن كل ما يبذله وينفقه لا يغير برود عاطفة الزوجة، ولا يجذب الأولاد -الذين تعودوا على غيابه- إلى احترامه؛ بل هم يعاملون أمهم على أنها الأب والأم معًا، وإنما الزائر الراحل عن قريب مجرد بنك؛ لأخذ الأموال منه، فهذا يفسد تصورهم عن الحياة، ويؤدي إلى تفكك العلاقة بينهم كأشقاء وشقيقات، ثم فساد نظرتهم إلى معنى الكرامة في الحياة إلى جمع المال، وأن يبدأوا حياتهم من حيث انتهى الأب.

وأصبحت الكماليات التي تحولت إلى ضروريات دون المستوى هي الأصل، بل يطمع إلى التملك للمزيد من وسائل الترف؛ مع خطورة اتباع الترف على المجتمع كله في انتشار الإجرام والفساد فيه، مع فقد الناهي عن الفساد، قال الله -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116).

وقد يكون التباعد الحسي بسبب طول ساعات العمل؛ فتتجاوز ست عشرة ساعة يوميًا عدا المواصلات، وكل ذلك من محاولة الوصول إلى السقف المرتفع في الحاجات والكماليات ولو لم يسافر الزوج، وهذا في الحقيقة من علامات تباعد القلب في همته عن المقصود الأول في حياة الإنسان عبادة الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونَ) (الذاريات:56).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يقولُ ربُّكم: يا ابْنَ آدَمَ! تَفرَّغ لِعبَادَتي؛ أمْلأْ قلْبَكَ غِنىً، وأمْلأْ يَديْكَ رِزْقاً، يا ابْنَ آدَم! لا تُباعِدْ مِنِّي، أَمْلأْ قلْبَك فَقْراً، وأمْلأ يديْك شُغْلاً) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، ولو كان طول الساعات التي يقضيها الزوج خارج المنزل من أجل نصرة الدين، وتعلم العلم وتعليمه، والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله؛ مع الاستغلال الأمثل للساعات التي تتبقى للمنزل والأسرة في تحقيق الحب الصادق والتراحم الحقيقي دون اهتمام بالترف؛ لكانت النتيجة هي التماسك بين أفراد الأسرة، وتضاعف الحب والرحمة والسكينة جزاء البذل في سبيل الله، نفقة العمر أعظم من نفقة المال، وقد قال -تعالى-: (مَثَلُ الذين ينفقون أموالَهم في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سنابلَ في كُلِّ سُنْبُلةٍ مائةُ حَبَّةٍ واللهُ يًضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ) (البقرة:261)، فالبركة الحاصلة في العمل في سبيل الله تعوض نقص الوقت الذي يقضيه الزوج والأب في المنزل؛ وخصوصًا مع بعض الإضافات كرحلة عمرة أو حج أو ترفيه حلال أو صلة رحم أو أخوة في الله أو زيارات عائلية أو غيرها؛ فإن في ذلك -إن شاء الله- الخير الكثير.

ولا بد أن يبحث الزوج عن التخلص من السفر الطويل ما أمكنه، وكذا العمل لساعات طويلة، أو اعتبار المنزل كفندق للنوم، لا علاقة له فيه بأفراد الأسرة إلا كعلاقته بموظفي الفندق.

ثم لا بد من تقليل أوقات استعمال الهاتف، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتبر أحد الأسباب الأساسية لتفكك الأسرة، ونشر العنف في المجتمع.

ولهذا حديث آخر -بإذن الله-.

والله المستعان.