الفساد (45) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (3-5)

  • 350

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن الأمور المهمة في قضية هجرة الكفاءات العلمية والفنية من بلادنا إلى البلاد الغربية، والتي يجب ألا نغفلها أو نتجاهلها: ما يواجهه أبناؤنا مِن صعوباتٍ وتحدياتٍ صعبة وخطيرة طوال فترة إقامتهم في الخارج، تهدد سلامة دينهم واحتفاظهم بهويتهم الوطنية، وبالتالي ذوبانهم في المجتمعات الغربية، ثم فقدهم نهائيًّا، وهي خسارة ما بعدها خسارة للمهاجِر نفسه وعائلته، وبالتالي لأمته.

المراد بمصطلح الأقليات:

لم تعرف الحضارة الإسلامية مصطلح الأقلية للتعبير عن غير المسلمين المقيمين في الدولة الإسلامية، بل هم في الإسلام (أهل ذمة) أي: أهل عهد، لهم ما لنا وعليهم ما علينا طالما التزموا بالأحكام الإسلامية التي تعلو الدولة الإسلامية، وإنما ظهر مصطلح الأقلية خلال صراع الدولة العثمانية مع الدول الغربية، حيث استخدم الغرب هذه الأقليات التي تعيش داخل الدولة العثمانية كمخلب قط للتدخل في شئون الدولة العثمانية وإثارة الفتن والمشاكل لتمزيقها وتفتيتها؛ بدعوى حماية هذه الأقليات والحفاظ عليها، وهي ما نجحت فيه بدرجة كبيرة.

ويقصد بالأقليات في العرف الدولي: فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث الجنس أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه غالبية رعاياها، ويعتمد عادة في تحديد مفهوم الأقلية الإسلامية المعيار العددي، بحيث إذا زاد عدد المسلمين في دولة من الدول على نصف مجموع السكان تعتبر دولة إسلامية، وبالتالي لها حق الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وإذا قل المسلمون عن هذا الحد اعتبروا أقلية (راجع في ذلك: "السفر إلى ديار غير المسلمين: حكمه - أحوال المسلمين هناك"، تأليف أبي سفيان التوحيدي، أيمن بن يوسف - ط الخلفاء الراشدين - الإسكندرية ط. أولى 1430 هـ - 2009 م، ص 83).

ومن الناحية القانونية: فإن الأقليات الإسلامية على ثلاث فئات، تختلف في أوضاعها الشرعية والقانونية وإمكانية دعمها، وتتضمن:

1- مسلمون هم رعايا لدولة غير إسلامية يعيشون فيها ويحملون جنسيتها، وبالتالي لهم ما لمواطني هذه الدولة من حقوق وواجبات؛ إذ إنهم من مواطني تلك الدولة، وتمثل هذه الفئة أكثر الأقليات الإسلامية، ومن أمثلتهم: مسلمو الصين في الصين، ومسلمو الهند في الهند.

2- مسلمون هم رعايا دولة إسلامية يحملون جنسيتها، ولكن يقيمون في دولة أجنبية غير إسلامية ولا يحملون جنسيتها، فيخضعون لمقتضيات القانون الدولي وأعرافه، ولأحكام القانون المحلي المطبق في الدولة الأجنبية. وهذه الفئة تأتي في الدرجة الثانية من حيث التعداد، مثال: المسلمون من دول منظمة المؤتمر الإسلامي المقيمون في الغرب، مثل: المسلم الماليزي الذي يقيم في أمريكا.

3- مسلمون هم رعايا دولة غير إسلامية ويحملون جنسيتها ويقيمون في دولة أجنبية أخرى غير إسلامية ولا يحملون جنستها، وأعداد هذه الفئة أيضًا كبيرة، وتتضمن مسلمين في دولة غير إسلامية يقيمون في دول لا تنتمي إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، مثال: مسلم صيني يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

أحوال الأقليات الإسلامية في الخارج:

أما عن أحوالهم: (فنجدهم قلة تعيش وسط مجتمع مخالف لهم في أخطر شيء على الإطلاق؛ ألا وهو الدين)، ووسط مجتمع (ليس فيه تعاليم كتعاليم الإسلام العادلة التي تحمي غير المسلم في الدولة الإسلامية فتحرم الظلم والاعتداء عليه، وتضع أحكامًا تحمي وتصون حقوقه، والتاريخ الإسلامي خير دليل على ذلك فلم تنعم الملل غير الإسلامية نصرانية كانت أو يهودية في تاريخها كما تنعمت تحت مظلة الحكم الإسلامي العظيم) (المصدر السابق، ص 90 -91 بتصرفٍ).

(فالمسلمون مع قلتهم التي تمثل ضعفهم إضافة إلى أنهم يعيشون تحت مظلة أحكام قوم يخالفونهم في أخطر شيء وهو الدين الذي يمثل كل شيء في حياة المسلم فهم يتعرضون للاضطهاد والعنصرية، وطمس هويتهم الإسلامية وفرض الاندماج، بل يتعرضون للأدهى من ذلك الأمر وهو التنصير)، (إضافة إلى الحرب الإعلامية المشبوهة التي غايتها تشويه صورة الإسلام والمسلمين، واستعداء الناس على المسلمين، وجعلهم يبغضون الإسلام)، وآخرها الرسوم المسيئة التي رسموا بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، (فإن المتتبع لوسائل الإعلام الغربية يلاحِظ مؤشرات خطيرة للعداء المتزايد ضد الإسلام والمسلمين والجاليات الإسلامية هناك، وتركيز هذا الشعور الوهمي بخطورتها استنادًا إلى:

1- الفهم المغلوط لبعض مفكري وكتاب الغرب للإسلام وتعاليمه.

2- تسليط الأضواء على بعض التصرفات الشاذة لبعض المسلمين، ورؤية الإسلام من خلالها.

والأمر المؤسف: أن الإعلام الغربي يروِّج مؤخرًا لهذه الأمور وبصورة مكثفة، ويتوسع في نشرها وإلقاء الضوء عليها، وتمادي بعض مفكري وخبراء وسياسي الغرب في تصنيف الإسلام على أنه الخطر الحقيقي، وأن المسلمين في هذه البلدان يمثِّلون تهديدًا لا يستهان به تجاه حكوماتهم وشعوبهم، وأصبحت مجلات وصحف كبرى في أوروبا تبرز عناوين رئيسية في غاية الإثارة والاستفزاز، وتحذر من قدوم خطر (الراية الخضراء - الإسلام) مثل: (الله يحتل العالم)، (الإسلام يملأ الفراغ بعد انحسار الشيوعية)، (نيران جامحة في الجمهوريات الإسلامية)، وظهرت حرب المصطلحات: المتعصبون - الأصوليون - المتطرفون - النضاليون (الجهاديون) - الإرهابيون - الإحياء والبعث الإسلامي، الخطر الإسلامي، الصحوة الإسلامية، إلخ.

والمسلمون والعرب في ذهن الغربي ما هم إلا موردون للنفط أو راغبون في اللذة، ناشرون للإرهاب، وأدت الصورة الإعلامية المكثفة إلى خلق صورة إعلامية مفادها: أن الإسلام هو الخطر الأخضر بدلًا من الخطر الأحمر الذي مثلته الشيوعية في فترة الحرب الباردة قبل سقوطها، فالإسلام هو السرطان الذي يهدد القيم الغربية، والعدو الطبيعي للغرب، أضف إلى ذلك: الربط بين الإسلام والإرهاب) (راجع في ذلك المصدر السابق، ص 91 - 93).

وفوق ذلك فهناك:

1- عدم اعتراف العديد من الدول الغربية بحقوق الأقليات الإسلامية، وفرض القيود على تمثيلها في المجالس النيابية والشعبية مما يحد من تأثيرها.

2- عدم السماح في بعض الدول بأي مظهر إسلامي بدعوى مخالفته لثقافة وعادات وتقاليد الدولة، ومثال ذلك: منع إحدى المدارس الفرنسية الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب أثناء وجودهن بالمدرسة، علمًا بأن اليهوديات مسموح لهن بارتداء الملابس التي تميزهن)، (كما أن الطلاب النصارى مسموح لهم بحمل الصلبان).

3- تعليم الدراسات الإسلامية في مراحل التعليم الأولى يقابَل بتحفظ شديد، أو يكاد ينعدم في العديد من الدول الغربية، ويرتبط بهذه المشكلة ما تفرضه بعض المدارس في الدول الغربية على أبناء المسلمين من تعلم قواعد الدين النصراني، كما أن مناهج العلوم الإسلامية توضع من قبل غير المسلمين، وهناك نقص كبير في المدرسين الأكفاء، حيث إن معظمهم تم إعداده في مدارس غربية.

4- ملاحقة المسلمين ومحاربتهم في أرزاقهم، وظهر ذلك من انتشار الحركات السياسية المتطرفة في ألمانيا، تلك التي تدعو إلى رد كل الأجانب، وقد بدأت بالأقلية التركية، وتعرضت بعض الأسر للحرق داخل مساكنهم. كما شهدت فرنسا حركات مشابهة، منها: قتل الشاب المغربي وإلقاؤه في نهر السين أثناء انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 1995م؛ هذا فضلًا عن اتباع أساليب أخرى؛ لتعقيد سبل الحياة والإقامة والجنسية أمام المهاجرين المسلمين في معظم دول أوروبا.

5- عدم توفر اللحوم المذبوحة على الطريقة الشرعية، كما أن لحوم الخنازير هي السائدة، حيث يستخدم دهن الخنزير في كثيرٍ مِن الأطعمة.

6- مشكلة قلة أماكن العبادة وما تفرضه بعض الدول من معوقات أمام إنشائها.

7- مشكلة الزواج المختلط وما يترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية تنعكس على الآباء، وكثير من الزيجات كان دافعه الأساسي الحصول على تصريح الإقامة من الغرب.

8- كذلك تنصب عوائق كثيرة في طريق الجهود المبذولة لتعليم اللغة العربية لأبناء المهاجرين، ودول أوروبية قليلة تسهم في الجهود التي تبذلها المنظمات العربية والإسلامية من أجل تمكين الجالية العربية في أوروبا من دراسة اللغة العربية.

9- كما يواجه المسلمون على مختلف فئاتهم عمليات تنصيرية تنفذها الهيئات النصرانية وبعثات التنصير.

10- هذا وتواجه الجاليات المسلمة في الغرب تحديات؛ نتيجة الوضع الطبيعي الذي يعيشه الشعب الغربي من انفلات أخلاقي وتحرر بوهيمي، وحياة الأقلية المسلمة في أوروبا تزخر بعشرات من القصص التي تدور غالبيتها حول مشكلة الجنس، فمفهوم العفة وعلاقات الزواج العميقة في جذور المسلم والمسلمة تعتبر أهم نقاط الاحتكاك بين الحضارتين في حياة المسلمين في الغرب، فبينما يسيطر على المسلمين التمسك بالعفة يسيطر على الغربيين الانطلاق مع المتعة بأوسع طرقها! وتنشأ الفتاة المسلمة ممزقة بين مفاهيم المنزل وما تشاهده من ممارسات خارج النطاق الأسري، ويؤدي هذا الانفصام إلى مآسٍ وحالات اكتئاب منتشرة بين الفتيات المسلمات والعربيات خاصة اللاتي نشأن وتربين في المدن)، (وتشغل المسألة الجنسية مساحة مهمة من اهتمامات الرجال والشبان العرب والمسلمين في أوروبا، ولا يعرف معظمهم في البداية كيف يتعامل مع الفتاة الأوروبية؟ ويطرح على نفسه عشرات من الأسئلة الملحة حول الحلال والحرام والخير والشر والفضيلة والرذيلة، أما الآباء والأمهات فيقعون في مشكلة حقيقية عندما تبلغ بناتهم سن المراهقة؛ تلك السن التي تبدأ فيها الفتاة الأوروبية ممارسة الجنس، وبعض الآباء قرروا العودة إلى البلاد العربية والإسلامية، ورفضوا الاستمرار في العمل في أوروبا؛ نظرًا لأن بناتهم قد بلغن السن الحرجة فخافوا عليهن من مجارات زميلاتهن الأوروبيات).

(في الغربة وفي أوروبا ملايين المسلمين ربما كانوا أكثر انفتاحًا على ثقافة الآخر؛ إلا أنهم يريدون تنشئة أطفالهم على مبادئ الإسلام؛ الواحد منهم لا يريد أن تعود ابنته إلى المنزل بعد منتصف الليل ورائحة الخمر في فمها، أو صديقها في يدها، ولا يريدها حاملًا في سن المرهقة، أو عضو في فريق مدمني المخدرات، أو نصف عارية في ملهى ليلي ترقص على أنغام موسيقى البوب، لا يريدها ربيبة كأس، ومخمورة ليل، ومسفوكة عرض).

11- ومن أكبر المعوقات التي تواجه الجاليات المسلمة في الغرب: مشكلة التعليم، وهذه المشكلة ناجمة عن النظام التعليمي مِن قِبَل وزارات التعليم في هذه الدول الذي يفرض المناهج الدراسية الموجهة لأبناء الجاليات الإسلامية، (وقد أكد العلماء والباحثون الإسلاميون المشاركون في الحوار الإسلامي المسيحي بسويسرا عام 1995م بمناسبة مرور 900 سنة على بدء الحروب الصليبية أن المناهج التعليمية الأوروبية تشوه صورة الإسلام والمسلمين).

وقد أثبتت دراسة أجراها باحثون بعضهم مسلم وبعضهم غير مسلم ونشرتها الأكاديمية الإسلامية للعلوم بـ(كولونيا) بألمانيا أن في الكتب الدينية المدرسية التي تدرس للطلاب في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا وعدد آخر من الدول الأوروبية ثمة خلطًا وتشويهًا واضحين عن الإسلام وقعا في تلك الكتب، وبالتالي في عقلية الطلاب، ومِن ثَمَّ في العقلية الغربية ونظرتها للإسلام والمسلمين، ومن بين تلك الادعاءات الخطيرة التي امتلأت بها هذه الكتب: صعوبة فهم حقيقة عقيدة التوحيد، والعيب على عقيدة القضاء والقدر، ووصف القرآن بالتناقض، وأن بعضه مأخوذ من الكتب الدينية السابقة.

وذكرت الدكتورة فوزية الشافعي الأستاذة بالجامعات السويسرية في بحث لها حول كتب التاريخ والجغرافيا التي تدرس في إسبانيا وفرنسا واليونان: أن هذه الكتب تصور المسلمين على أنهم برابرة ووحوش، وتسمي الفتح الإسلامي بالغزو، وتصور المسلمين على أنهم سفاك دماء، وأصحاب عنف دموي، وتعتبر القرآن الكريم مجرد كتاب يحتوي على تعاليم محمد -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين، نافية أنه وحي من عند الله -تعالى-!

وأشارت الدكتورة فوزية في بحثها إلى خطورة تلك المناهج: أنها تدرس لتلاميذ الصفوف الابتدائية، وبالتأكيد ما يدخل العقول في تلك الفترة المبكرة لا يخرج منها بعد ذلك.

(إن قضية التعليم التي تواجه الأجيال الجديدة للجاليات الإسلامية في أوروبا تبدو اليوم ملحة، بل إنها تكاد تشكل أزمة بحد ذاتها، فمن يطلع على أوضاع هذه البراعم المسلمة الصغيرة لا بد أن يدرك بكل مرارة وألم الأخطار والمشكلات والصعوبات المحدقة بهم في المجتمع الأوروبي والتي تهددهم، والاحتمال الكبير بأن يجرفهم التيار مع مرور الزمن بعيدًا عن إيمانهم ودينهم، فالمؤسسات التربوية والتعليمية في المجتمع الأوروبي تخضع لتصورات ومفاهيم وقيم صيغت وفقًا لقوالب ثقافية وتربوية كنسية مادية بحيث يمكن أن يتأثر أبناء المسلمين بهذه الثقافة نتيجة حضورهم في مدارسهم مع أترابهم الأوروبيين المواعظ والقداسات الكنسية).

12- (ومن أهم وأخطر التحديات التي تواجه الأقليات المسلمة في بلاد الغرب عدم وجود من يفقههم في دينهم، بل كثير منهم لا يعرف عن دينه إلا اليسير واليسير جدًّا، وفي هذه الحالة كيف يعبد الإنسان المسلم ربه وهو جاهل بأبجديات دينه وعبادة الله -تعالى- قائمة على العلم والعمل والدعوة والصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة) (راجع في ذلك المصدر السابق، ص 93 - 109).

13- مشكلة التكيف مع المجتمع الغربي:

(يصاب كثير من المهاجرين الجدد بعدم القدرة على التكيف في مجتمع جديد وحضارة جديدة، فالمعايير والقيم والمفاهيم كلها جديدة، وحتى يتكيف سلوك الإنسان القديم مع عادات جديدة؛ فإنه يعاني عملية احتراق وذوبان وبشكل وصياغة جديدة، والكثيرون ينعزلون ويفضلون الانطواء، وآخرون يندمجون إلى حد الذوبان، وقليلون ينجحون في التكيف دون ذوبان أو انطواء.

إن المجتمعات التكنولوجية منظَّمة والإنسان العربي عمومًا فوضوي، وهي نظيفة وسريعة وتعتمد على العمل المتواصل والجهد والإنتاج، وتقدس العمل اليدوي والفكري، وهذه كلها مفاهيم غريبة على المهاجر الجديد من العالم الثالث وعليه أن يتعلمها بسرعة، والمجتمعات التكنولوجية تحترم كرامة الإنسان وحرياته وحقوقه، ولكنها أيضًا قاسية وشديدة؛ لأنها تلزمه بمسئوليات والتزامات، فلا يوجد حق إلا ويقابله واجب، وهكذا يأخذ السلوك شكلًا صارمًا وجديًّا لا عبث فيه، وللمرح وقته، وللجد وقته.

وفي المجتمعات التكنولوجيا رياضة ومرح وترفيه، وسباحة، وموسيقى، ورحلات، ورقص، وفيها جرائم ومخدرات، وتفكك عائلي، وضياع روحي، وعلى المهاجر الجديد أن يتكيف دون أن ينجرف، وأن يتأقلم دون أن يذوب، والمهاجر سيتعلم بأن لرب العمل فصله بأي لحظة؛ ولهذا فإن القلق النفسي عند الأجانب قائم وعند العرب مضاعف.

إن ثمة حقائق مريرة توضح أن كثيرًا من ذوي الكفاءات قد ذابوا في الولاء للبلاد الأجنبية ونسوا نهائيًّا الوطن الأصلي الذي له حقوقه عليهم، وأن كثيرًا من الطلبة الذين ذهبوا للدراسة استهوتهم النوادي الليلية والحرية الجنسية فضاعت من أيديهم أهداف الدراسة وانتهوا إلى الانتقال من حانة إلى حانة، ومن بار إلى بار.

إن مشكلة التكيف إذًا تعني التأقلم مع البيئة بمزاياها وعيوبها، والقدرة على ضبط النفس والمحافظة على القيم والمثل، والولاء للوطن الأصلي، وتحقيق الهدف العلمي والدراسي أو المادي الذي سافر من أجله الإنسان إلى البلاد الأجنبية، والعودة للخدمة الوطنية) (راجع: "نزيف الأدمغة"، ص 91 - 92).

14- مشكلة الرقابة المزدوجة:

يشتكي بعض الطلبة في أقسام الدراسات العليا في إنجلترا وأمريكا وأوروبا وكندا مِن رقابة عليهم في دراستهم، (وقد شعروا أن هذه الرقابة ذات طرفين، ويتمثل الطرف الأول من عناصر طلابية تابعة لمباحث ومخابرات البلد الأجنبية المحلية، أما الطرف الثاني للرقابة فيتمثل مِن عناصر تابعة لمباحث ومخابرات بلدهم الأصلي الذي تركوه، وخرجت الأمور إلى مدى أبعد، فحملت إلينا الصحف العربية والأجنبية أنباء باغتيال عناصر وطنية عربية في إنجلترا وألمانيا وأمريكا على يد موظفين وعملاء مدربين لبعض مكاتب المباحث والمخابرات، وضاعف ذلك من قلق ذوي الكفاءات العرب وطلبة الدراسات العليا الذين بدأوا يشعرون بأن ازدواجية المراقبة عليهم قد يعني اتفاقًا رسميًّا بين أجهزة المخابرات المركزي والفيدرالي من جهة، وبين جهاز المخابرات في بلد عربي معين، وأدى ذلك لاندفاع بعض العلماء العرب لتغيير أسمائهم وأديانهم قانونيًّا لضمان حياتهم وبقائهم)، هذا في الوقت التي نجحت مخابرات معادية خاصة الموساد الإسرائيلي بالإغراء أو التهديد والابتزاز في تجنيد بعض هؤلاء المهاجرين والدارسين للتجسس على أوطانهم الأصلية، والقصص في ذلك معروفة مشهورة.

15- انتشار المنظمات الصهيونية وغياب المنظمات العربية:

تؤدي المنظمات الصهيونية -وهي كثيرة العدد ومنتشرة على نطاقٍ واسعٍ- في أمريكا وكندا، وبعض دول أوروبا الغربية أدوارًا رهيبة لدعم القادم اليهودي الجديد إلى البلاد الأجنبية، وتذليل ما يتعرض له من عقبات ومصاعب ووضع الحلول لها، وأدوارًا أخرى في مواجهة النابغين من الكفاءات العربية والمصرية، بينما المنظمات العربية منظمات هزيلة ضعيفة تتصارع طبقًا للدولة التي تقوم بتمويلها من البلاد العربية، وتكاد تكون واجهة دعائية لسلطة التمويل بدلًا من أن تحدد مشكلات المهاجرين العرب الجدد وتعمل على مساعدتهم وأداء خدمات لهم، بل إن من المؤسف أن الجاليات العربية في أوروبا وأمريكا منقسمة متناحرة ومتصارعة (راجع المصدر السابق، ص 93- 94).

العداء للمسلمين في دول الشرق:

ولا تظن أن العداء للإسلام قاصرًا على أوروبا الغربية دون دول أوروبا الشرقية ودول الشرق، بل يمتد أيضًا إليها وبصورة لا تقل شراسة، ولعل أوضح مثال على ذلك: ما حدث في البوسنة والهرسك على يد الصربيين لما أراد البوسنيين إظهار هويتهم الإسلامية بعد سقوط يوغسلافيا الشيوعية في فترة التسعينيات، حيث تعرضوا لحرب تطهير عرقي، وجرائم إبادة يندى لها الجبين على مرأى ومسمع من الجميع، وتراخٍ وتباطؤ في وقف ذلك العدوان الوحشي ومنعه؛ إلا بعد أن يؤدي دوره المطلوب! وقل مثل ذلك فيما تعرض له مسلمو الشيشان من عدوان وحشي لا مثيل له على يد الروس، والتي تحولت معه وقتها مدينة جروزني عاصمة الشيشان إلى مدينة أشباح ومقبرة لعشرات الآلاف من القتلى المسلمين.  

ولا يخفى على أحدٍ ما يتعرض له علانية -وعلى مسمع ومرأى من الجميع- مسلمو كشمير على يد الحكومة الهندوسية في الهند، ومسلمو الصين من الإيجور في غرب الصين على يد الحكومة الصينية الشيوعية، والروهينجا في تايلاند، وكلها صور لا يمكن إنكارها أو تجاهلها مِن المعاداة السافرة للهوية الإسلامية في تلك البلاد، وانتهاك يفوق الوصف لحقوق هذه الأقليات المسلمة، في مواجهة أكثرية تصر على الاستيلاء والسيطرة على ديارهم وأراضيهم من جهة، ومن جهة أخرى: على إضعاف وإذابة -أو طرد- هذه الملايين الكثيرة من المسلمين المضطهدين من أوطانهم التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، ويحملون جنسيتها، فليسوا غرباء عنها! وإنا لله وإنا إليه راجعون.