عندما ينطق الرويبضة!

  • 378

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فحينما يوسَّد الأمر إلى غير أهله، ويَتكلم في العلم والدِّين مَن ليس مِن أهله؛ فانتظر الساعة؛ لأنه إذا حكم الجهل زاد الشر، ومعلوم أن من علامات قيام الساعة ازدياد الشر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) (رواه أحمد بسندٍ حسن).

إن التعالم هو عتبة الدخول على القول على الله -تعالى- بلا علم، والقول على الله -تعالى- بلا علم هو أصل الشرك والكفران، وأساس البدع والعصيان، وانتشار الفواحش والآثام، والبغي والعدوان، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33).

ولقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فاختلط الحابل بالنابل؛ لكثرة المتعالمين الجهلاء، وقلة الربانين من العلماء، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الفوضى في العلم، وتكلم في مسائل -لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر- كل مَن هبَّ ودبَّ، ممَن ليس له مِن العلم سوى "القلم والدواة"، قليل المعرفة والمخبرة، يمشي ومعه أوراق ومحبرة، ومعه أجزاء يدور بها على شيخ وعجوز، لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي؛ هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان" (مجموع الفتاوى).

عندما ينطق الرويبضة -الرجل التافه الجاهل، الفويسق العاجز- في أمر العامة، ويُصدر في قضايا الأمة التي هي مِن شأن ذوي العلم والبصيرة، وذوي المدارك والآراء السديدة، فهذا مِن فساد أحوال الزمان، فإذا كثر الملاحون غرقت السفينة، ولبعض مَن يفتي أحق بالحبس من السراق، كما قال ربيعة -رحمه الله-.

عندما ينطق الرويبضة، ويتطاول الأقزام، ويتخذ الناس رؤوسًا جهالًا يُسألون فيفتون بغير علم، فيَضِلون ويُضِلون؛ فإنهم يسببون للأمة والدِّين بالمحن والكوارث، ويوهنون عرى الدين في المجتمع، ويفسدون على الأمة عقيدتها؛ فيظهر الفساد، وتتزعزع الثوابت، وتشاع الفاحشة، وتنتشر الرذيلة، وتضيع الأمانة، وتسفك الدماء، وتستباح الأعراض، وتثار النعرات الجاهلية التي جاء الإسلام ليهدمها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (متفق عليه).

قال ابن حزم -رحمه الله-: "لا آفة على العلوم وأهلها، أضر مِن الدخلاء فيها، وهم مِن غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون"، وقال الجرجاني: "إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به، أعضل الداء واشتد البلاء" (دلائل الإعجاز).

إن مِن الواجبات الشرعية المتعلقة بالمستفتي أن يتطلب المفتي الصالح للإفتاء؛ فلا تبرأ الذمة بسؤال أي أحد، ولو ممن لا يحسن الفتوى! بل لا تبرأ إلا بسؤال أهل الذكر من العلماء؛ عملًا بقوله -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، فلا يصح استفتاء أهل الجهالة، ولو تَصدروا أو صُدروا، قال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".

وقد ذهب أهل العلم إلى تحريم التساهل في الفتوى، كما يحرُم استفتاء مَن عُرف بالتساهل، ما لم يكن ذلك بدليلٍ شرعي، قال النووي -رحمه الله-: "يحرم التساهل في الفتوى ومن عُرِف به حرم استفتاؤه" (آداب الفتوى)، وقال ابن الصلاح -رحمه الله-: "لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومَن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى" (فتاوى ابن الصلاح).

وإن لمن الواجبات الشرعية كذلك -صيانة للعلم، وحفاظًا على الدين-: أن يُحجر على أمثال هؤلاء الجهلة المتعالمين؛ الذين هم "بمنزلة مَن يدل الرَّكب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالًا مِن هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين" كما قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان".

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فمن تكلم بجهل، وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهى عن ذلك، ويؤدب على الإصرار، كما يفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة، وإن كان مشهورًا عنه العلم" (مجموع الفتاوى).