دائمًا... الخطأ عند شخص آخر!

  • 249

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد عاب رجل صاحبه على صفحات الفيسبوك، واتهمه بوصف هو ألصق بالكاتب، فلما نصحه أحد المعلقين ألا يفعل مثل هذه الأمور لأنها تسيء إليه؛ وجدت صاحب المشاركة الأصلية غاضبًا من هذه النصيحة التي وُجهت له على الملأ، فقلت لنفسي: سبحان الله! لماذا لم يجد هذا الرجل حرجًا من ذكر صاحبه بسوء على الملأ بينما ضاقت نفسه من نصيحة -في موضعها-؟! ولماذا يعيب على صاحبه أمرًا ولا يرى مِن نفسه أضعاف هذا العيب؟!

ثم تذكرتُ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- معلم البشرية- الذي قال فيه: (يُبصِرُ أحدُكم القَذاةَ في عَينِ أَخيه، ويَنْسَى الجِذْعَ في عَينِه مُعتَرِضًا) (رواه ابن حبان وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني)، يعني ما أسهل أن يرى الإنسان عيوب الآخرين -وإن كانت صغيرة-، ولكنه لا يرى عيوب نفسه التي بين جنبيه، وإن كانت هذه العيوب واضحة جلية، وفي الحديث: بيان أدب المؤمن الذي يهتم بعيوب نفسها وإصلاحها، ولا ينشغل بعيوب الناس، بل يسترها وينصحهم برفق وحكمة حتى يعينهم على أنفسهم، فيكونون أفضل وأقرب إلى الله.

وهذه الظاهرة تراها شائعة في سلوكنا وحياتنا اليومية: فهذا أب يقسو على أولاده ويطالبهم بالكمال -لا مجرد فعل الواجب-، وهو لم يكن كذلك في عمرهم، بل لم يحصِّل هذا الكمال الآن في عمره هذا.

وهذا زوج يمنع زوجته حقها من العشرة بالمعروف ويطالب بحقه هو أولًا، وعند كل خلاف يسهل عليه أن يسرد مقالات في عيوبها ومواقفها التي أساءت فيها، ولا يكاد يرد على ذهنه المرات التي أساء هو فيها، وإن قلتَ له: أليس لك عيب؟! قال: ومَن فينا ليس ذا عيوب، ولكن أكبر عيوبي أني كنت أتساهل معها وأعطيها وأمنحها! هو يرى نفسه كاملًا سويًّا في الحقيقة، ولكنه مِن باب ذر الرماد في العيون يدعي أن خطأه هو عين فضله وإحسانه؛ لا قسوته، وعدم تفهمه، وقلة صبره، وانعدام حكمته! هذا لم يرد على ذهنه؛ فكيف يعترف به؟!

وهذه زوجة تطالب زوجها بالاهتمام بها وهي لا تولي اهتمامًا كبيرًا بحقه وقدره، ولا ترى أنه جنتها ونارها، وعند كل خلاف تسرد له مواقف حدثت من سنين، وأمورًا ربما يكون هو قد ندم عليها واعتذر عنها، وكالعادة لا ترى نفسها أخطأت، وهي ليس فيها عيب؛ إلا أنها صبرت عليه أكثر من اللازم! وحتى لو اعترفت بخطأ فهي مجرد ردود أفعال فقط اقتضتها الظروف التي أُجبرت هي عليها، وأما إلحاحها وقلة صبرها وسوء تعاملها معه؛ فليس واردًا لديها أن تذكره أو تعترف به مِن باب الإنصاف.

وأعرف رجالًا كثيرين لا يرى الواحد فيهم نفسه مقيدًا بالتزام أقصى حدود الأدب والتحفظ في معاملة النساء الأجنبيات في البيع والشراء، والعمل والدراسة، وغيرها، بينما هو مع زوجته يفرض عليها أكثر مما يطالبها الشرع به! أوَليس الرجال والنساء جميعًا مخاطبين بهذا الأدب؟!

وهذا رجل آخر يطالب أزواج بناته بما لا يفعله هو مع زوجته أُم هؤلاء البنات!

وبعض الناس يستمعون إلى الخطيب يذكر شيئًا من المنهيات الشرعية الشائعة فيمصمص الشفاه، ويهز الرأس تأسيًا على "فساد أحوال الناس" وسوء طباعهم، ولا يرد على أذهانهم أن لهم نصيبًا مِن هذا الفساد والسوء!

وهذا رجل تراه يكلِّم الناس بلسانٍ سليطٍ، ويسمي نفسه صريحًا أو صادقًا، أو لا يعرف للخداع والنفاق طريقًا، وهو هو لا يتحمل أدنى عتاب أو أخف نقد أو خلاف، مهما كان مؤدبًا، وبأسلوبٍ بنَّاءٍ، وترى النقاش معه يتحول إلى معركة شخصية لا نقدًا موضوعيًّا!

لماذا يشعر أحدنا بالانزعاج الشديد عند انتقاد الناس لفعلٍ فعله، أو قولٍ تلفظ به، ولا يرى بأسًا مِن انتقاده للآخرين والحكم عليهم باستعلاء وفوقانية؟!

وهلم جرا...

وما منا إلا...

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23).

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير مِن زكاها، أنت وليها ومولاها.