الفساد (46) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (4-5)

  • 435

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن ما ذكرناه فيما سبق عن نوعية وحجم التحديات والصعوبات التي يتعرض لها مَن يهاجر إلى البلاد الغربية أو يقيم بها بما يهدد وبقوة حفاظه على تعاليم دينه الذي نشأ عليه، والقيم والأخلاق والمبادئ التي تربى عليها، وكذلك هويته الوطنية التي يعتز بها، تجعلنا نحتاج أن نعود إلى الخلف عدة خطوات للتطرق إلى نقطة مهمة كان ينبغي أن نبدأ بها الكلام؛ ألا وهي:

هل السفر والإقامة والهجرة إلى بلاد غير المسلمين أمر مسموح به لكل أحد؛ لما قد يعود عليه من المنافع والفوائد أم هو ممنوع؛ لضخامة ما رأيناه من التحديات والمصاعب، وهي فتن غير هينة تهدد دين المرء وانتماءه وهويته؛ خاصة إذا لم يستطع أن يكيف نفسه مع المجتمع الغربي، أو لم يتحمل أن يرى أولاده الذكور والإناث الذين تربوا في هذا المجتمع الغربي وتلقوا فيه تعليمهم وتشربوا منه ما هو شائع فيه، وقد صاروا غرباء بالنسبة إليه؟!

وهذا بالطبع فيمن ما زال يعتني بأمر دينه ووطنه وهويته وهم الكثرة، دون مَن تفلت وانسلخ من دينه وهويته، فأصبح غربيًّا أوروبيًّا في النزعة والهوية، فمثل هؤلاء لا يأبهون بما سنقول، ولا يتألمون مما نتألم منه فهم خارج حساباتنا هنا، وإن تقطعت عليهم قلوبنا أسفًا وحزنًا، وهم في الجملة قلة، وإن كنا لا نستهين بما نفقده أو يضيع منا وإن قل، ونتمنى لو عاد إلى صوابه، ولزم مِن جديد جادة الطريق.

إن العلمانية المادية والنظرة الدنيوية للحياة، وعدم الالتفات إلى الآخرة بسبب التسابق على المال والمناصب والشهوات، هي سمة الحياة الغربية، وإن صُبغت بالتقدم العلمي والتقني!

ومعلوم أن الحضارة من شقين: شق مادي وشق ثقافي، واليوم يستخدم الإنسان في حياته أحدث وأرقى الوسائل والأدوات، ولكنه شاء أم أبى يوجهها في خدمة ما يؤمن به من قيم ومبادئ وأخلاق؛ لذا فالتقدم العلمي سلاح ذو حدين، فإن استخدم التقدم العلمي في الخير والصلاح عاد على البشرية في عاجلها وآجلها بالخير والصلاح، وكانت حضارته حضارة خير ورشاد، وإن استخدم التقدم العلمي في الشر عاد على البشرية في آجلها -ولابد- إلى الفساد والإفساد، سواء نال في العاجل منه خيرًا أو لم ينل.

الحكم الشرعي في الإقامة في غير بلاد المسلمين:

هذه المسألة من المسائل التي تعرض لها المسلمون الأوائل في المدينة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- إليها، حيث تحتم على كل مَن يسلم وقتها أن يترك مجتمعه الذي يعيش فيه ليهاجر -إن استطاع- إلى مجتمع المدينة الجديد فرارًا بدينه فيسلم مِن أي عداوة أو إكراه، وينعم بممارسة شعائر دينه وتطبيق أحكامه، والمساهمة في تقوية المجتمع المسلم بأمانٍ ويسرٍ.

وبعد فتح مكة وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية، ثم خارجها، لم تعد هناك هجرة ملزمة إلى المدينة أو الجزيرة العربية حيث أصبح للإسلام دوله الكثيرة ومجتمعاته العديدة التي يمكن فيها للمسلم إقامة الإسلام وممارسة أحكامه.

واليوم يسافر كثير من المسلمين إلى غير بلاد المسلمين لأمورٍ عديدة: للتعلم والدراسة، أو للتخصص في نوع نادر من العلوم، أو للتجارة استيرادًا أو تصديرًا، أو للعمل والتكسب، أو طلبًا لعلاج لا يوجد في وطنه الأم، أو لاستثمار أموال يمتلكها في مشروعات ونحوها، بل منهم مَن يسافر إلى هناك للدعوة إلى الإسلام من خلال مراكز إسلامية، أو لرعاية بعض الجاليات المسلمة هناك وتقديم الخدمات لهم، أو مِن خلال الالتحاق ببعثات دبلوماسية وقناصل وسفارات، والبعض قد يسافر للسياحة والفرجة وحب الاستطلاع؛ فما ضوابط هذا السفر التي يجب على كل هؤلاء مراعاتها وعدم الخروج عنها؟

ذكر العلماء أن لهذا النوع من السفر شروطه، ومنها:

ألا يخالف هذا السفر الشرع في ذاته، وفي النية المصاحبة له، وأن يكون محتاجًا لهذا السفر ولا بديل عنه في وطنه الأم، وهذا يقتضي أن تكون الإقامة هناك بقدر تلك الحاجة تنتهي بانتهائها.

فإذا احتاج للإقامة هناك، فينبغي:

1- أن يكون عنده من العلم بالدين وقوة الإيمان ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، فقد ذكرنا من قبل كيف أن هناك فهمًا مغلوطًا عن الإسلام منتشر بين الغربيين، وكثير من الأباطيل والافتراءات حول الإسلام، فيها طعن في دين الإسلام وكتابه، ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، وتشويه متعمد لتاريخ الإسلام ورجاله؛ مما يوجب على مَن يقيم هناك أن يكون قادرًا على دفع تلك الشبهات، والدفاع عن عقيدته، فلا يتعرض للشك فيها أو التذبذب.

2- أن يكون عنده مِن قوة الدين ما يحميه من الوقوع في الشهوات، حيث يسود الغرب الإباحية وشيوع والمحرمات من زهرة الحياة الدنيا بلا أي قيود أو موانع، وهو خارج بلده لا يخشى ممَن يعرفه فيفضح ستره عند مَن يهمه ألا يفضح عنده، ولن يلومه أحد هناك على ما قد يقترف من المنكرات، بل قد يجد تشجيعًا عليها، فهذه الحياة المعتادة هناك، ومَن لا يمارسها يوصف بالانطوائية وبالانعزالية، وعدم الاندماج في المجتمع، ويطلب له العلاج!

3- أن يكون خلال إقامته هناك متمكنا من إظهار إسلامه، وإقامة أحكامه، فلا يمنع من النطق بالشهادتين، ولا يمنع من إقامة الصلاة والمحافظة عليها بما فيها الجمع والجماعات، ولا يمنع من الصيام الواجب والمستحب إن أراد، ولا يمنع من حج واجب أو عمرة إن أراد واستطاع، ولا تمنع امرأته وبناته من الالتزام بما فرض عليهن من حجاب وزى إسلامي مع القدرة على إبعادهم عن صور الاختلاط الممنوع بالرجال والمصاحبة لهن والخلوة بهن.

معنى إظهار الدين في بلد غير المسلمين:

ليس المراد من إظهار الدين حال الإقامة في بلاد غير المسلمين القدرة على القيام بالعبادات من صلاة وصيام فقط -ولو في الخفاء- كما قد يظن الكثيرون، بل تمام الإظهار يكون بإظهار التبرؤ من الكفر وأهله والتصريح بذلك، فلا يكتم إسلامه أو يخفي صلاته وصيامه، ولا يتشبه بمن حوله من الكفار فيما هو من خصائص دينهم، ولا يهادنهم في الكفر فيظهر الموافقة والرضا بما هم عليه من أمور الكفر، ولا يعادي الإسلام والمسلمين من أجلهم أو ينصرهم عليهم، كما يظهر الرفض لكل صور ومظاهر العداء والاستخفاف أو الاستهزاء بدين الإسلام خاصة القرآن الكريم؛ كتاب الله -تعالى-، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك سائر شعائر الإسلام وأحكامه المشهورة المعروفة مما يتعرض لها غير المسلمين هناك بما لا يليق، وبالجملة: الامتناع عن كل مظاهر الموالاة الكفرية لغير المسلمين الذين يعيش معهم، ويقيم بينهم.

أما إقامة الطلاب والشبان الصغار فتتطلب أيضًا:

1- مستوى كبير من النضوج العقلي يميز به بين النافع والضار من جهة، ويتطلع به إلى المدى البعيد لا إلى ما يراه حوله مِن زخارف الحياة.

2- عدم الانجراف في تعظيم ومحبة معلميه من غير المسلمين؛ لما يراه من دقة علومهم وعلو همتهم الدنيوية ورفعة علومهم ومرتبتهم، فيوقعه ذلك في تبني آرائهم وأفكارهم، بل ومعتقداتهم دون تمحيص أو مراعاة لحكم الإسلام فيها، أو اتخاذهم قدوة مطلقة له.

3- عدم الانجراف في ملازمة ومحبة الزملاء والأصدقاء من غير المسلمين، فيوقعه ذلك في أن يكتسب من أفعالهم وعاداتهم وسلوكياته ما يخالف دين الإسلام، والاعتياد عليه فيصعب عليه تركه بعد ذلك، كما ينبغي ترك التجاوز في المعاملات مع الفتيات والنساء بالمصاحبة وإقامة العلاقات المباشرة، والمخالطة والخلوة بهن والسكنى معهن في مسكنٍ واحدٍ، فكلها في الإسلام من المحاذير التي قد يؤدي تخطيها والتساهل في مراعاتها إلى آثار مدمرة دينيًّا على سلوكيات المسلم وعلى نظرته لأحكام الإسلام في علاقة المرأة بالأجنبية؛ ففي هذا هلاكه وهو لا يدري.

ومن أخطر الصور في ذلك: ما يقوم به البعض من المسلمين -من الجنسين" الذكور أو الإناث- من قبول الإقامة مع بعض العائلات الأجنبية خلال فترة السفر إلى الخارج؛ خاصة في الإجازات الصيفية بغرض إتقان اللغة الأجنبية، والتوفير في تكاليف الإقامة والسكن هناك، فتتسبب هذا المخالطة التامة لأسابيع أو لشهور في التشرب بقيم وسلوكيات هؤلاء الأجانب وعاداتهم، واستحسانها وتقبلها كلها أو بعضها على ما قد يكون فيها من مخالفات صارخة لأخلاق وقيم وسلوكيات الإسلام الفاضلة.

والأمثلة على خطورة المعايشة الكاملة لغير المسلمين في بلادهم وآثارها المدمرة دينيًّا على شبابنا كثيرة قديمًا وحديثًا، وهي من أقوى أسباب تغريب الشباب فيعودون لأوطانهم بعد ذلك، وقد صاروا من شدة التغريب وتشربهم له يشعرون بالغربة في وطنهم الأم وبين أهاليهم وأقربائهم، ويتمنون لو تغيروا كما تغيروا هم، ومنهم مَن يتحول بالفعل والقول إلى داعٍ من دعاة التغريب داخل الأمة وهو مِن جلدتها!

الحكمة من التشديد في السفر إلى -والإقامة في- غير بلاد المسلمين:

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: (وأما الإقامة في بلاد الكفار؛ فإن خطرها عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه، وقد شاهدنا وغيرنا انحرافًا كبيرًا ممَن أقاموا هناك، فرجعوا بغير ما ذهبوا به؛ رجعوا فساقًا وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان -والعياذ بالله-، حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين؛ ولهذا كان ينبغي، بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك) (راجع: شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين - دار الثريا، ص: 132).

ومن الأمثلة على ذلك:

طه حسين الذي سافر إلى فرنسا فرجع بغير عقله الذي سافر به، وعمل بعد رجوعه على هدم الثوابت والطعن في الدين والتشكيك في القرآن، إلخ، حتى قال عنه الدكتور محمد محمد حسين: (طه حسين الذي تشهد كتبه بأنه لم يكن إلا بوقًا من أبواق الغرب، وواحدًا من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير، يروج لثقافته ويعظمها) (راجع في ذلك: أعلام وأقزام، د. سيد حسين عفاني، دار ماجد عسيري، ج 1 ص 256).

وقد ذكر د. نجيب البهيتي تلميذ طه حسين: أنهم حاصروا طه حسين بحصارين: زوجته الفرنسية، وسكرتيره القبطي، وأنه لم يكن يستطيع أن يفلت مِن مهمته، وأن نظرة واحدة إلى كتاب (معك) للسيدة سوزان، يكشف بوضوح عن وجه طه حسين (المصدر السابق، ص255).

(ومن هنا يتبين الحكمة من تحريم السفر إلى بلاد الكفر والإقامة بها، ويتضح لنا جليًّا أن تحريم السفر إلى بلاد الكفر هو لمصلحة المسلم من الحفاظ عليه وحمايته، من الفتن المتلاطمة في هذه البلاد -من فتن دينية عقدية أو مادية أو جنسية- خشية الوقوع فيها؛ نظرًا لانتشارها وسهولة فعلها، وأيضًا: لكثرة الأعمال المحرمة، بل التي تعد من الكبائر؛ إضافة إلى الاضطهاد الديني ضد المسلمين خاصة) (انظر: السفر إلى ديار غير المسلمين، أبو سفيان التوحيدي أيمن بن منصور، ط. دار الخلفاء الإسكندرية، ص 72- 73).

الآيات القرآنية في منع الإقامة في بلاد الكفر:

من الآيات القرآنية في المنع من الٌإقامة في دار الكفر حال الاستضعاف، وعدم القدرة على إظهار الإسلام وشعائره:

1- قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء:97-99).

قوله -تعالى-: (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يعني: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم، ومكثوا في دار الهوان يضطهدهم العدو، ويمنعهم من دينهم، ويحول بينهم وبين عبادة ربهم، هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم: (فِيمَ كُنْتُمْ) أي: في أي شيء كنتم من تطبيق أحكام دينكم وإظهار شعائره.

قوله -تعالى-: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)، قالوا ذلك تبريرًا لتقاعسهم عن الهجرة، ولم يقبل منهم هذا التبرير. قال الطبري: "(كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ): يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، معذرة ضعيفة وحجة واهية). وقال القرطبي -رحمه الله-: (اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل).

قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا): أي فتعبدوا ربكم. قال القرطبي -رحمه الله-: (وفي هذه الآية: دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي). قال ابن كثير -رحمه الله-: (فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل مَن أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية).

2- قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) (النساء:100)، قال ابن كثير في تفسيرها: (هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه).

3- قوله -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود:113). قال الجزائري في (نهر الخير على أيسر التفاسير): (فيها دليل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصي، وأهل البدع والأهواء، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة).

4- قوله -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت:56). قال ابن كثير -رحمه الله-: (هذا أمر من الله -تعالى- لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين بأن يوحدوا الله -تعالى- ويعبدوه كما أمرهم) (راجع المصدر السابق، ص 14 - 19).

أما الأحاديث النبوية في ذلك:

1- عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: (لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ورواه الطبراني في الكبير مختصرًا بلفظ: (مَنْ أَقَامَ مَعَ المُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَةُ).

قال ابن العربي عن الحديث: (فيه أن الله حرَّم أولًا على المسلمين أن يقيموا بين أظهر المشركين بمكة، وافترض عليهم أن يلحقوا بالنبي -عليه السلام-، فلما فتح الله مكة سقطت الهجرة، وبقي تحريم المقام بين أظهر المشركين). وقال الخطابي في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "(لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا): وقال بعضهم: إن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها".

قال ابن القيم -رحمه الله-: (والذي يظهر من معنى الحديث أن النار هي شعار القوم عند النزول وعلامتهم وهي تدعو إليهم، والطارق يأنس بها، فإذا ألم بها جاور أهلها وسالمهم).

وقال الصنعاني -رحمه الله-: (والحديث دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين) (راجع المصدر السابق، ص 20 - 22).

وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: (وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله، وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد، ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه، وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم) (شرح الأصول الثلاثة، ص 138).

2- عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُسَاكِنُوا المُشْرِكِينَ، وَلَا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني بمجموع طرقه)، قال الشوكاني في نيل الأوطار: (فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم).

3- عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، عَمَلًا حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ) (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني). قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: "(أَوْ يُفَارِقُ) أي: إلى أن يفارق، فالمضارع منصوب بعد (أَوْ) بمعنى: إلى أن، وحاصله: أن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام واجب على كل مَن آمن، فمن ترك فهو عاص يستحق رد العمل، والله تعالى أعلم). ويستثنى من ذلك المستضعفين، ومن كان في إقامته هناك عون للمسلمين مع إظهار تام لشعائر دينه كما بينا من قبل).

4- عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: (أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ) (رواه أحمد النسائي وأحمد، وصححه الألباني)، فربط الحديث في المبايعة بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومناصحة المسلمين، ومفارقة المشركين، ولا يخفى حال الإقامة في غير بلاد المسلمين مع صعوبة إقامة الجمع والجماعات لقلة أو ندرة المساجد فيها، وصعوبة إيتاء الزكاة الواجبة لفقراء المسلمين لقلة المسلمين هناك فيها، بل وندرة الفقراء منهم المستحقين للزكاة، والزكاة لا تعطى إلا لفقراء المسلمين، وصعوبة وجود من يقدر على نصحهم من المسلمين أو من يستجيبون لنصحه، فكل هذه الأمور متعذرة، وهي لا تتحقق إلا بإقامة المسلم في دار الإسلام ووسط المسلمين (راجع في ذلك: المصدر السابق، ص 20 – 25).

5- الحديث المرفوع: (لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ولا شك أن هذا حال كثير من المقيمين بالخارج حيث يتعرضون لفتن وابتلاءات فوق طاقة تحملهم، وتوقعهم في مخالفات لدينهم جسيمة، نسأل الله لنا ولهم العافية.