تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر (1)

  • 864

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن المؤمن في هذه الحياة يعلم أنه مبتلى ومختبر في سيره إلى الله بفتنٍ شتى من الداخل والخارج.

فمِن داخله: معوقات في النفس الأمارة بالسوء، ووساوس شياطين الجن.

ومِن خارجه: معوقات من جنس آخر؛ مِن الصد عن سبيل الله، وتزيين الباطل، وهذا فعل أعداء الله شياطين الإنس من الكفرة والفجرة والمنافقين.

- فالمؤمن في طريق تحقيق العبودية يلزمه جهاد نفسه وهواه حتى يحجمها عن العصيان ويحضها على ملازمة طاعة الرحمن، وهكذا عليه جهاد أعداء الله بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بدعوة الحق.

- ومن هنا يحتدم الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان؛ تلك المعركة القديمة قدم إنزال الله آدم -عليه السلام- وإبليس إلى الأرض، وبعث الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- لأقوامهم المشركين عبر الأيام والعصور والأزمان.

- وكلما ارتقى العبدُ في سُلم العبودية؛ ازداد يقينه أن هذا الصراع والتدافع أثر من آثار حكمة لله وجلاله وجماله -تبارك وتعالى-، بل ويستحق عليه الحمد والثناء والتمجيد (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251).

- ويستحق أيضًا الحمدَ على جعل الظلمات والنور (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام:1).

قدر الله أن تكون الأيام دولًا يداولها بين المؤمنين والكافرين ابتلاءً وامتحانًا؛ ليرفع درجات هؤلاء، ويخفض دركات أولئك: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:140-142).

- والعلم هنا هو علم بأعمالهم بعد وقوعها؛ علم شهادة كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "علمًا يحاسبهم عليه"، غير العلم السابق على خلقهم وأفعالهم.

- فمن خلال ذلك التدافع يتعرف العبدُ على أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، ويفهم سننه الكونية والشرعية، ويعلم أن ربه عليم حكيم.

- هو العليم يعلم كل شيء؛ ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم الأحوال على ما فيها، والمآلات.

- هو الحكيم حكيم في أفعاله، يضع الشيء في موضعه، يضع النعمة في موضعها، ويضع العقابَ في موضعه.

- ومع ذلك لطيف بعباده يدبر لهم في خفاء، وجمعت كل هذه الأسماء آية حكاها الله على لسان الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام- بعد ما لاقى من أنواع الأذى والبلاء ما لاقى، وآل أمره إلى العزة وعلو الشأن، فتأمل -عليه السلام- في تدبير ربه وفعله وقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100).

- على العبد الرباني ألا تزيده المحن إلا منحًا في الإقبال على الله وحبه، وحمده والرضا به.

- عليه أن يسير إلى ربه رغم العواصف والمعارك والتدافع حتى يصل إليه -تبارك وتعالى- "ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد"، وأعظم مؤنس له في ذلك كلام العزيز الحميد الذي يقعُ من القلوب موقع القطر من الأرض التي طال ظمؤها وتشققت أحشاؤها تضرعًا للسماء أن تهطل عليها بوابل رحمة وحياة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء:82)، (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) (فصلت:52).

- والآن نقف على أعتاب بحر القرآن الفياض قدمًا من بوابة الغيب نرتشف سويًّا من لذيذ معينه مع سورة الحجر، وهي سورة مكية أصلًا وفصلًا، مع خواتيمها زبدة ما فيها مِن توجيه، وتربية ربانية إلهية.

فهل لدينا قلوب تملأ بكؤوس الهدى؟!

نسأل الله أن يهب لنا قلوبًا ندرك بها الحياة مع القرآن!

- لله الأمر مِن قبْل ومِن بعد، إليه يرجع الأمر كله، إليه تصير الأمور، فمَن أراد أن ينتصر في ذلك الصراع؛ فعليه بالرب القدير النصير؛ فالأمر من هاهنا؛ من السماء، وليس من هاهنا، أي: من الأرض وأسبابها.

- علينا أن نفهم كيف يُدار ذلك الصراع بأن نعتصم به -تبارك وتعالى-، ونلوذ برحمته ونستعين بعزته، فلا يُرد أمره، ولا يهزم جنده، سبحانه وبحمده.

- فلنعلم إذًا أن العزة والنصر في جواره -تبارك وتعالى-، واستمداد العون منه ومعرفة إرادته في خلق السماوات والأرض، والأخذ بأسباب النصر التي شرعها لنا، نحن عباده الضعفاء في مواجهة شياطين الإنس والجن، في ذلك التدافع والصراع، والذي بمقتضاه تظهر آثار أسمائه الجميلة الجلية؛ فأصغ سمعك إلى تلك الكلمات التي تنير الظلمات: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85).

 فالله خلق السماوات والأرض بالحق، ولولا الحق لما خلقهم، وهذا الحق هو ما قال فيه -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فخلق الخلق لغاية جليلة، وهي تحقيق العبودية، وإجراء الابتلاء على ذلك في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك يأتي الموت والدار الآخرة، فيحاسب العباد على ما اقترفته أيديهم، كما قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2)؛ ولذلك عَقبَ الله ذكر الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض بذكر الساعة، فقافلة المؤمنين الموقنين تسير بين الرغبة فيما عند الله والرهبة مما أعده للمجرمين.

وهذا الإيمان باليوم الآخر أصل جمال السير إلى الله -تعالى- خوفًا ورجاءً، وإخلاصًا، وبذلاً وتضحية، بل هذا الإيمان العميق يجعل المؤمن يستعلي على الكفر، ويرى موازين الأرض ضعيفة إذا قوبلت بجنود الله -تبارك وتعالى-: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249).

 وهنالك في ذلك اليوم العظيم يقتص للمظلوم من الظالم، ويُقضى بين الخلائق كلها بالحق، ويُقال: "الحمد لله رب العالمين".

 رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو ذر -رضي الله عنه- شاتين تنطحان فقال: (يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟)، قُلْتُ: لَا، قَالَ: (لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17).

ذلك اليوم المشهود؛ ذلك اليوم العظيم: الحاقة، الواقعة، القارعة، الصاخة، الطامة الكبرى، الله يتجلى ملكه وسلطانه وينادي: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر:16)، بل جمْعُ العباد فيه مِن آثار رحمته -تبارك وتعالى-: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام:12)؛ هنالك شقي وسعيد، ففريق في الجنة، وفريق في السعير، فلتشخص الأبصار لذلك الهول الكبير والهم العظيم، ولا تلتفت إلى أذى أو تضييق أو تحكُّم أو استهزاء أو عدوان (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85).

وهو الصفح الذي لا عتاب معه، وهذا سر جماله، وهكذا العارف الذي استغنى -بما أفاض الله على قلبه- عن الناس ومطالبتهم بحقه، ولا يكون ذلك الاستغناء إلا بصدق معرفة الله بأسمائه وصفاته، كما كان حال يعقوب ويوسف -عليهما السلام- في صبر يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:18)، وإحسان يوسف: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92)، فالتعلق بأسمائه وصفاته أهم من المطالبة والمعاتبة والمضاربة.

 وكان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "العارف لا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب".

- (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (الحجر:86): فتعرض لرذاذ المعرفة بإلهك الحق، فما الدنيا والآخرة إلا أثر من آثار خلقه وعلمه، فهو يخلق، ويميت ويحيي، ويعلم ما تنقص الأرض من الموتى، ويعيد الخلق مرة أخرى وهو أهون عليه (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق:4)، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104)، فهو رب العالمين وربك أنت، فتفيأ ظلال القرب لمشاهدة آثار خلقه ورحمته، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (لقمان:11)، (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:50).

- مطالعة تلك المشاهد تهب القلب قوة في مصاولة الباطل، وتصقل القلب وتملؤه نورًا، فيستعد لتلقي كلمات الله، القول الثقيل.

فاستعد للنعمة الكبرى والمنة العُظمى.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.