الشيخمهندس! (1)

  • 412

كتبه/ خالد فوزي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثيرًا ما كنت أسمع في صغري: هذا باشمهندس، وذلك باشمهندس، وكنت أتعجب مِن التسمية، هل هو اشتقاق مِن "باشا مهندس"، أو مقلوبة منِ "شاب مهندس"، ثم وجدتُ أننا نحتاج إلى مصطلح آخر، وهو (شيخمهندس!).

فثمة أمور شرعية تتعلق بالهندسة والحساب، فينبغي أن يكون مع المهندسين الشيخ الذي له علم بأمور الشريعة، ولاسيما في المسائل المتعلقة بالمنشآت التي تتعلق بالعبادات، بل وكل المنشآت تقريبًا، وأحب أضرب أمثلة لذلك مما شاهدته وخبرته من المخالفات الهندسية للمسائل الشرعية.

- جمرة العقبة:

حدود مشعر منى مما يلي مكة المكرمة هو جمرة العقبة، وكان مكانها شجرة قديمًا، وموضع الرمي المسنون ورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى جَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ: "هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (متفق عليه)، وفي رواية: "فَاسْتَبْطَنَ الوَادِيَ حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ" (رواه البخاري)، وهذا يقتضي أن يرمي الحاج وهو على حدود منى، ولما قام المهندسون ببناء المرمى السابق؛ جعلوه نصف دائرة للإشارة إلى موضع الرمي المسنون، لكن جسر الجمرات متعدد الأدوار الجديد لم يراعِ المهندسون ذلك، بل جعلوا الجدار البيضاوي مكانه، وأوصلني بعض إخواننا بأحد المهندسين الذين عملوا في بنائه، فقال: قد جعلنا المرمى السابق في مركز البناء الحالي، وهذا يقتضي أن أحد طرفي المرمى داخل منى، والآخر خارجها، وعليها فمَن أراد السنة فيرمي في المنتصف ويقترب من الطرف الأبعد حتى يحقق كون مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، وكان عليهم أن يراعوا ذلك في البناء، فيجعلون المرمى القديم في طرف المرمى القائم لتحقيق السنة لأكثر الحجاج، وهذا وإن كان لا ينبني عليه فوات شعيرة الرجم، فهو صحيح أيًّا كان موقف الرامي؛ إلا أنه يبقى الخلاف في الأفضل والمستحب، وينبني عليه أيضًا معرفة الحدود، فحد منى الآن يصبح عند منتصف الجمرة وليس عند طرفها مما يلي مكة، والله أعلم.

مطاف المسجد الحرام:

مع تبليط بكة -أي موضع المطاف على ما ترجح لي- بالرخام، وضع المهندسون الرخام في شكل دائري، مما شكَّل إشكالًا في الصفوف القريبة من الكعبة المشرفة، فصارت الصفوف الأولى تنقطع عند الحجر "الحطيم"، وهذا الإشكال ناجم أن بناء الكعبة ليس مربعًا، بل هو مستطيل، وثمة جزء من الحجر "الحطيم" لم يبنَ، وهو قدر خمسة أو ستة أو سبعة أذرع، وهو مما يزيد في استطالتها، فالصفوف تكون في شكل بيضاوي "وهو هندسيًّا القطع الناقص"؛ فيكون له مركزان، وليس دائريًا بمركزٍ واحدٍ، وكنتُ أشرتُ لهذا في أحد المؤتمرات في جامعة أم القرى في نقاش بحث للمهندسين ضمن فاعليات ملتقى الحج، وأشرت أيضًا أنه لابد عند اختيار نوع القطع الناقص؛ مراعاة الجزء الذي من الكعبة بالحطيم، ولم يبنَ، فلابد أن يكون مركزاه داخل البناء الحالي، لأنه قد يقترح مهندس قطعًا ناقصًا فيقع المركز في الجزء الفراغ الذي بالحطيم، فيكون الناس في بعض الاتجاهات يصلون إلى فراغ، وإنما لابد من الصلاة إلى شاخص، ففي صحيح مسلم عن عطاء: أن ابن الزبير لما هدم الكعبة ليبنيها، جعل أعمدة ووضع عليها الستور ليصلي إليها الناس -وعليه فلابد مِن أن يكون مركز القطع البيضاوي داخل البناء الحالي- ونص الرواية: فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً، فَسَتَّرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ)، قَالَ: "فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ"، قَالَ: "فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ" (رواه مسلم)، ونلحظ النظرة الهندسية اللطيفة في الرواية حيث قال عطاء: "فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ"، فإن العين تشعر بنسبة الطول للعرض، كما في خلق الإنسان وغيره، وهو ما يسميه المهندسون المضلع الذهبي، الذي فيه العرض نحو ثلثي الطول.

فهذا مِن أهم ما نحتاج فيه إلى الشيخمهندس.

والله -تعالى- أسأل أن يبصرنا بالحق، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.