الشيخمهندس (4)

  • 429

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تناولت سابقًا بعضًا من ترتيبات تخطيط المدن التي ينبغي أن يكون (الشيخمهندس) حاضرًا فيها، وأبيِّن هنا بعض المقاييس الهندسية التي تحتاج إلى (الشيخمهندس)، ومنها:

الدرهم والدينار، والمد والصاع:

مما يحتاج إليه في هذا العصر: تحديد قيم الدرهم والدينار، والمد والصاع، لتعلق بعض الأحكام الشرعية بها، وفي سنن أبي داود والنسائي -بسندٍ صحيحٍ- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)، فوزن الدينار أو الفضة نحتاج له في معرفة نصاب الزكاوات، وغير ذلك.

وقد حده العلماء بدقة، فقال أبو محمد بن حزم في المحلى: "وَبَحَثْت أَنَا غَايَةَ الْبَحْثِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وَثِقْت بِتَمْيِيزِهِ، فَكُلٌّ اتَّفَقَ لِي عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ: اثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاَثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ بِالْحَبِّ مِنْ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ، وَالدِّرْهَمَ: سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ؛ فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الْمَكِّيِّ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ حَبَّةً وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ حَبَّةٍ".

فاحتاج الناس الآن لشيوع تقدير الوزن بالجرامات معرفة قدر ذلك، وقد طلبتُ مِن طلابي عد هذه الحبات ووزنها بميزان دقيق، فوزنها أحدهم: (4.2 جرامًا)، وآخر (4.3)، فالمتوسط (4.25)، فحمدنا الله، فإن هذا هو الذي قرره علماؤنا في العصور المتأخرة عندما قالوا: نصاب الذهب (85 جرامًا)، وهو عشرون من الدنانير، فالدينار أربعة جرامات وربع الجرام. وعليه فالدرهم سبعة أعشار ذلك، أي (2.975) من الجرامات، فيكون نصاب الفضة: (200 درهم أي 595 جرامًا)، وهو لا إشكال فيه -بحمد الله-، لكن الإشكال اليوم كثيرًا يكون في تحديد أي النصابين تكون العملة الورقية، فإذا قيل نصاب الفضة هو الأحظ للفقير؛ كان في المقابل إيجاب ما ليس واجبًا إن اعتبر نصاب الذهب.

والأشبه أن ينظر في القيمة الشرائية وقت التشريع لهما، ففي البخاري من حديث عروة البارقي -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فإذا كانت الشاة تقوم بدينار، وكان الدينار عشرة دراهم، فالأشبه أن يتم الاعتماد على الذهب في عصرنا؛ لأنه يمكن أن نشتري شاة بدينار أي بقيمة (أربعة جرامات وربع من الذهب)، فهي بالجنيهات مثلًا: حدود ثلاثة آلاف جنيه، لكن مستبعد أن نشتري شاة بعشرة دراهم أي بقيمة (نحو ثلاثين جرامًا من الفضة)، وهي نحو ثلاثمائة جنيه، فقيمة الذهب قديمًا نحو عشرة أضعاف قيمة الفضة، وتضاعفت الآن نحو مائة ضعف.

ثم إن الذي يملك نصاب الفضة من الجنيهات الآن وهو ما يناهز خمسة آلاف جنيه تزيد عن حاجته ليس في عرف الناس الآن يكون غنيًّا، وقد تكلم الفقهاء في حد اليسار في النفقة والنكاح، والجزية، والدية، والأضحية، وعن الإمام أحمد: أنه مَن وجد خمسين درهمًا لا يحل له المسألة، ومعلوم أنه ما قال هذا إلا مراعاة لحكم زمانه، فليس في هذا نص، وخمسون درهمًا كانت تساوي خمسة دنانير، أي: ما يقابل الآن نحو  اثني عشر ألف جنيه أو يزيد، في حين لو قدرت بالفضة، لكانت نحو ألف ومائتي جنيه، ومتطلبات الحياة تجعل مَن عنده ذلك، لا تكفي إذا احتاج دواءً، بل ولا تكفيه طعامًا وكسوة؛ ولا سيما إذا كان ذا زوجة وعيال.

 فالأشبه أن يقدر النصاب في الزكاة بالذهب لا الفضة، والله أعلم.

ومما يحتاج إليه معرفة تقدير الصاع، والمراد بالصاع: الصاع النبوي، وتتعلق بالصاع أحكام شرعية كثيرة منها: زكاة الفطر، وكفارة الإفطار العامد في رمضان، وكفارة الظهار، وفدية الإحرام، وكفارة الإفطار في رمضان لعذر مبيح، وكفارة تأخير قضاء الصوم، ونفقة الزوجة، ومقدار الماء الذي يتوضأ أو يغتسل به، وغير ذلك.

وقد اتفق الفقهاء على أن الصاع أربعة أمداد، لكن الخلاف في تحديد المد بين الجمهور والحنفية، لكن الإشكال اليوم أن كثيرًا مِن المشايخ يطلق أن الصاع مثلاً ثلاثة كيلو من الأرز، وهذا خطأ قطعًا؛ لأن الصاع مكيال، فهو مقياس حجم، وليس وزنًا، فلابد أن يقيد ثلاثة كيلو من كذا أو كذا، وقد حصلت على إسناد المد النبوي، وحزرته بمقياس مدرج بالسنتمترات المكعبة، فإذا هو نحو (950 سم3)، أي: قريب الليتر، فإذا كان الصاع أربعة أمداد، فهو قريب الأربعة ليترات.

ثم أخذت أربعة حفنات من التمر الوسط، ووضعتها في مكيال مدرج، فاقترب أيضًا من أربع ليترات، وإنما اخترت التمر؛ لأنه كان أغلب طعام أهل المدينة إبان زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قال -عليه الصلاة والسلام- لعائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: (يَا عَائِشَةُ، بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ، يَا عَائِشَةُ، بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ) أَوْ: (جَاعَ أَهْلُهُ)، قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

وتحديد المد الشرعي، يحدد بمقابله الصاع والفرق، والوسق، وغيرها من المكاييل التي تتعلق بها الأحكام الشرعية في كثيرٍ مِن المسائل.

هذا باختصارٍ مِن بعض ما نحتاج فيه إلى الشيخمهندس.

والله -تعالى- أسأل أن يبصرنا بالحق، ويهدينا إلى سواء السبيل.