مظاهر القسوة في مجتمعاتنا... أسباب وعلاج (24)

  • 392

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلنا وقفات مع هذه الآيات:

قال الله -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أُخذ عليهم لعناهم؛ أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم عن الهدى، (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي: فلا يتعظون بموعظة؛ لغلظها وقساوتها، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي: فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأوَّلوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يَقُل، عياذًا بالله من ذلك، (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)؛ أي: وتركوا العمل به رغبة عنه.

قال الحسن: تركوا عُرى دينهم ووظائف الله -تعالى- التي لا يُقْبل العمل إلا بها. وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة؛ فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة. (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) يعني: مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك، وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ): وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملْتَ مَن عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني به: الصفح عمَّن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) منسوخة بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة:29).

قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول -جل ثناؤه- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهدَ الذي بينك وبينهم؛ غدرًا منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم، ومن ذلك أنِّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى -صلى الله عليه وسلم- على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبًا، وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصرَ عليهم، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العِبَر والآيات -بإهلاك فرعون وقومِه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم؛ فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي؛ فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم؛ فإذْ كان ذلك مِن فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم؛ فلا تستنكروا مثله من فعل أرَاذلهم.

قال: ويعني بقوله -جل ثناؤه-: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) قال قتادة: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.

قال ابن عباس: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.

وقوله: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً): اختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: (قَاسِيَةً) من قسوة القلب، فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من بني إسرائيل؛ بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني، (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)؛ غليظة يابسةً عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منزوعة منها الرأفة والرحمة.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً)، واختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك معنى القسوة؛ لأن "فعيلة" في الذم أبلغ من "فاعلة".

قال آخرون منهم: بل معنى (قَسِيَّة) غير معنى القسوة، وإنما (الْقَسِيَّة) في هذا الموضع: القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كُفْر؛ كالدراهم "القَسِيَّة" وهي التي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص، وغير ذلك. وأعجبُ القراءتين لأبي جعفر: (قَسِيَّة).

وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)، قال ابن جرير: يقول -عز ذكره-: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني إسرائيل قَسِيَّة، منـزوعًا منها الخير، مرفوعًا منها التوفيق؛ فلا يؤمنون ولا يهتدون، فهم لنـزعِ الله -عز وجل- التوفيق من قلوبهم والإيمان؛ يحرّفون كلام ربهم الذي أنـزله على نبيهم موسى -صلى الله عليه وسلم-، وهو التوراة، فيبدّلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنـزله الله -جل وعز- على نبيهم، ثم يقولون لجهَّال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنـزله على نبيه موسى -صلى الله عليه وسلم-، والتوراة التي أوحاها إليه.

وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى -عليه السلام- من اليهود، ممن أدرك بعضُهم عصر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنَّ الله -عزّ ذكره- أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى -عليه السلام- منهم؛ إذ كانوا مِن أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله، والفرية عليه، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة.

وذكر عن ابن عباس: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إنْ أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإنْ خالفكم فاحذروا.

وقوله: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ): يعني -تعالى ذكره- بقوله: (وَنَسُوا حَظًّا): وتركوا نصيبًا، وهو كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة:67)، أي: تركوا أمر الله فتركهم الله، ونقل عن السدي وعن الحسن مثل ما ذكر.

وقوله -تعالى-: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ): يقول -تبارك وتعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: ولا تزال يا محمد تطَّلع من اليهود -الذين أنبأتك نبأهم؛ مِن نقضهم ميثاقي، ونكثهم عهدي، مع أياديَّ عندهم، ونعمتي عليهم- على مثل ذلك من الغدر والخيانة، (إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ)؛ إلا قليلًا منهم لم يخونوا.

عن قتادة: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) قال: على خيانة وكذب وفجور. وعن مجاهد: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) قال: هَمَّ يهودُ مِثْلُ الذي همُّوا به من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم دخل حائطهم.

قال: والصواب مِن التأويل في ذلك: أنَّ الله عنى بهذه الآية؛ القوم مِن يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعينهم في دية العامريّين؛ فأطلعه الله -عز ذكره- على ما قد همُّوا به، ثم قال -جل ثناؤه- بعد تعريفِه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة؛ لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -جل ثناؤه- ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ، ونقضِ عهد.

قال: وقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ): هذا أمر مِن الله -عز ذكره- لنبيَّه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالعفو عن هؤلاء الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود، يقول الله -جل وعز- له: اعفُ يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم؛ فإني أحب مَن أحسنَ العفو والصَّفح إلى مَن أساء إليه.

وكان قتادة يقول: هذه منسوخة، ويقول: نسختها آية براءة: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ... ) الآية (التوبة:29).

قال: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر؛ هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه؛ فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبرٍ مِن الله -جل وعز- أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود؛ إذ كان ذلك كذلك، وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم، لم يكن واجبًا أن يُحْكم لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ... ) الآية، بأنه ناسخ قوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (انتهى باختصارٍ وتصرفٍ يسيرٍ).