أزمة كورونا ونظام التقاضي عن بُعد (1/2)

  • 775

في ضوء الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدولة المصرية؛ لمواجهة وباء كورونا المستجد، تم تعليقُ العمل بمرفق القضاء؛ سواء بتعليق جلسات المحاكم على اختلافها، أو بتعليق العمل بالمرافق والقطاعات المعاونة؛ مثل الشهرالعقاري ومكاتب الخبراء وغيرها، مدفوعة -أي الدولة- في ذلك بفقه نظرية الضرورة والظروف الطارئة؛ وذلك للحد من انتشارهذا الوباء، وإن كان هذا القرار -بتعليق العمل بالمحاكم- لم يخل من بعض الاستثناءات الضرورية؛ مثل تجديد الحبس الاحتياطي للمتهمين ونحو ذلك.


ولا يخفى أثر هذه الأزمة على انتظام عمل مرفق القضاء، وما يتعلق به من حقوق ومراكز قانونية للمواطنين؛ خاصة ما آثاره ذلك من خلاف فقهي حول المواعيد الإجرائية الإلزامية، وما يترتب علي عدم مراعاتها من بطلان؛ ما جعل مجلس النواب يسارع في تعديل بعض أحكام قانون الطوارئ رقم 162لسنة 1985 بالقانون رقم 22 لسنة 2020؛ حيث أضافت المادة الثانية -من القانون المشار إليه- البند رقم (8) إلى المادة (3) من القانون؛ متضمنة حسمًا لذلك الخلاف الفقهي، إذ قررت (وقف سريان مواعيد سقوط الحق، والمواعيد الإجرائية الخاصة بالتظلمات الوجوبية والدعاوى والطعون القضائية، وغيرها من المواعيد والآجال، المنصوص عليها في قوانين وقرارات تنظيمية آخرى، وسريان تلك المواعيد في اليوم التالي لتاريخ انتهاء تعطيل تلك المرافق المتعلقة بالسلطة القضائية، مع مراعاة وضع المحبوسين احتياطيًا، والمتهمين بأحكام جنائية الصادربحقهم أحكام جنائية يمكن الطعن عليها؛ فلا يسري أثر هذا الوقف علي هذه الحالات).


ولما كانت الدولة المصرية تسارع الخُطى وتسابق الزمن؛ لمحاولة التقليل من آثار تلك الأزمة؛ سواء في الوقت الراهن، أومستقبليًا برؤية استراتيجية مُستدامة؛ وجه السيد /عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية بضرورة سرعة صيانة المحاكم وميكنتها، واستخدام الوسائل الإلكترونية الحديثة، وفي ظل توجه الحكومة المصرية، والذي أعلن عنه رئيسُها الدكتور/ مصطفى مدبولي، بالتعايش مع الأزمة مع اتخاذ كافة الاحتياطات والاحترازات الصحية اللازمة؛ بدأت رويدًا رويدًا بعضُ المحاكم إعادةَ العمل ولو جزئيًا وفق ضوابط واشتراطات مشدة وصارمة؛ كمجلس الدولة وبعض محاكم الاستئناف.


إلا أن كل ذلك لا يمنع من طرح فكرة اتخاذ نظام التقاضي عن بُعد، كحل مستدام ورؤية استيراتيجية بعيدة المدى في ضوء احتمالية استمرار هذه الأزمة لفترة لا يُعلم مداها، ليس ذلك فحسب؛ بل إن انتشار وسائل التواصل والوسائط الإلكترونية ودخولها في نشاطات تجارية واقتصادية وإدارية ومالية واجتماعية متعددة يُحتم إعادة النظر في طرح هذه المسألة، والتي وجه لها السيد/ رئيس الجمهورية كما سبق الإشارة إلى ذلك.

والحقيقةُ أن تفعيل نظام كهذا، يستلزم تضافر جهود جهات عِدة :-


أولى هذه الجهاتهي السلطة التشرعية التي يتوجب عليها إعادة النظر في القوانين الحالية، ومدى الحاجة إلى سن تشريعات جديدة؛ لتطبيق نظام التقاضي عن بُعد في مجال الدعاوى المدنية والتجارية والأحوال الشخصية على وجه التحديد؛ حيث تتحلى الدعوى الجنائية بخصائص ويحيطها ظروف موضوعية وإجرائية، ربما يكون من الصعوبة بمكان معها تطبيق ذلك النظام عليها.


جدير بالذكر، أن بعض الدول العربية الشقيقة -وفي وقت لاحق لاشتعال أزمة كورونا؛ مثل المملكة المغربية- بدأت العمل بهذا النظام، والتي أعلن مجلس القضاء الأعلى فيها منذ عدة أيام وبعد تطبيق النظام ولمدة أسبوع أنه عُقدت نحو 240 جلسة وأُدرجت نحو 3613 قضية بمختلف المحاكم، واستفاد ما يقرب من 4005 محبوسًا من هذا النظام.


كما أن بعض الدول العربية طبقت نظام التقاضي عن بُعد؛ باعتباره وسيلة مستدامة لتسهيل التقاضي علي الخصوم والجهات المختصة، وذلك قبل ظهورأزمة كورونا من الأساس، ومنها دولة الإمارات العربية في عام 2019، والتي سوف أتناول تجربتها بمزيد من التفصيل في مقال لاحق بإذن الله.

ثاني هذه الجهات، وزارة العدل وبالتنسيق مع المحاكم المختلفة، وبمعاونة وزارة الاتصالات؛ يقع على عاتقها تجهيزالمحاكم من الناحية اللوجستية؛ لإمكانية العمل بهذا النظام من التقاضي، إذ يتطلب الأمر تزويدها بالوسائل الحديثة والوسائط الإلكترونية، وربطها بشبكة الإنترنت والمعلومات الدولية، فضلًا عن تدريب وتأهيل العاملين والموظفين من الكتبة وأمناء السربالمحاكم، وتوفيرموظفي ومهندسي النظام التقني؛ ليتمكنوا من  التعامل مع النظام الإلكتروني ابتداء من قيد الدعاوى وإعلان الخصوم، مرورًا بتحضير الجلسات، وانتهاء بصدور الأحكام بالصيغ التنفيذية الممهورة بالتوقيع الإلكتروني للسادة رؤساء المحاكم.


ثالثُ هذه الجهات، جهات الدعم للسادة المستشارين ورؤساء المحاكم، وكذا السادة الأساتذة المحامين؛ الذين يمثلون ما تعارفناعلى تسميتهم -بالقضاء الجالس والقضاء الواقف- عصب مرفق العدالة، وهي نوادي القضاة ونقابات المحامين، وذلك بعقد الدورات التأهيلية اللازمة؛ لكيفية التعامل مع ذلك النظام، إدارةً وتحقيقًا للمحاكمات المنصفة العادلة من قبل القضاة، ودقة ومهارة من المحامين في طرحهم لدعواهم وبيانهم لأدلتهم وحججهم.

قد يبدو الأمرُصعبًا بعض الشيء، وهو في الحقيقة كذلك؛ لكنه ليس مستحيلًا على دولةٍ قوية مثل الدولةِ المصرية بأجهزتِها ومرافقها المختلفة، كوزارة الاتصالات وشركاتها التابعة، ومجلس النواب، ووزراة العدل، ومجلس القضاء الأعلى، ونوادي القضاة، والنقابة العامة والنقابات الفرعية للمحامين.

 نظامٌ يتسحق تضافر الجهود، والتعاون المثمر؛ للوصول فيه إلى نتائج تليق بدولتنا وفي أسرع وقت.

وحول مفهوم نظام التقاضي عن بُعد، والتجربة العربية في ذلك؛ خاصة الإماراتية، سيكون للحديث بقية، بإذن الله تعالى.