رمضان وتعميق العبودية

  • 349

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالعبودية لله -عز وجل- هي الغاية التي لأجلها خلق الله الخلق، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وهذه العبودية تعني في حقيقتها تحقيق الخضوع لله -عز وجل- فيما يأمر به أو ينهى عنه، والتسليم لأوامره -سبحانه- والانقياد التام المنافي للإباء مع الرضا الكامل لما حكم وقضى به -سبحانه-، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).

وهذا يعني الاستجابة لأوامر الله والانتهاء عن نواهيه، والشرع الحنيف لا يأمر المسلم إلا بما يصلحه في دينه وتصلح به دنياه وآخرته، ولا ينهاه إلا عما يضره في كليهما ولو رآه العبد خلاف ذلك؛ فالله -سبحانه- أعلم بخلقه مِن الخلق أنفسهم، وهذه العبودية يستصحبها المسلم في كل لحظة مِن لحظات حياته (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163)، لكن العبد مع ذلك يعتريه النقص والنسيان، ويحيد أحيانًا عن الطريق ويستقيم أخرى؛ فيأتي شهر رمضان ليكون مدرسة العبودية ليذكر المسلم بالغاية التي خُلق لأجلها، والسلوك الذي ينبغي أن يسير عليه ويختاره بإرادته الحرة، فيأتي الأمر من الله -سبحانه- بالأكل فيأكل، وبالإمساك عن الأكل فيمسك (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة:187).

وعندما يؤمر بالأكل يستحب له أن يبادر به لينال الخيرية بين أبناء الأمة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) (متفق عليه)، فإذا كان في الاستجابة للأمر بالأكل وهو مباح وحلال ومطلوب من معاني العبودية فإن الاستجابة لله -عز وجل- في سائر أوامره ونواهيه فيما أمر به أو نهى عنه من باب أولى.

فالذي أمرك بالأكل فأكلت، أمرك ببر الوالدين وصلة الرحم والإحسان للناس، وأمرك بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وأمرك بالأمانة والصدق والوفاء، وبالأمر بالمعروف ونصرة الضعيف، وأكل الحلال.

ونهاك -سبحانه- عن ضد ذلك من الأفعال والأقوال، وإذا كان المسلم يلتزم الأمر في المباح بالأكل في رمضان بإرادته واختياره، فهو أيضًا قادر على أن يلتزم أوامر الله، وينتهي عن نواهيه بإرادته واختياره.

ومن هنا نفهم أن عبادة الصوم وشهر رمضان يدربنا على الاستقامة على العبودية لله في كل لحظاتنا، وسائر مناحي حياتنا، فما خلقنا الله إلا لأجلها، وهذا منتهى شرف العبد وعزه في الدنيا والآخرة.

ومـمـا زادنــي شـرفـًا وتيهـًا             وكـدت بـأخمصي أطأ الثـريـا

دخولي تحت قولك يا عبادي             وأن صيـرت أحمـد لـي نـبيـًّا

وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.