مِن نعم الله علينا في رمضان

  • 381

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقد قال الله -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل:53). 

وما بكم -أيها الناس- من نعمة دينية أو دنيوية، فمن الله -سبحانه- لا مِن غيره، ثم إذا أصابكم بلاء أو مرض أو فقر فإليه وحده تتَضَرَّعون بالدعاء، ليكشف عنكم ما أصابكم، فمَن يمنح النعم ويكشف النقم هو الذي يجب أن يُعْبدَ وحده (المختصر في التفسير).

لا شك أن المسلم الناظر المتأمل يرى نعم الله -تعالى- جلية في الكون مِن حوله ويستشعر فضله عليه ورحمته به، سواء أكانت في السراء أو الضراء أو المنشط أو المكره، وإن مِن أجلى نعم علينا في هذه الأيام:

١- بلوغ رمضان: نعمة فبلوغ رمضان نعمة جليلة أعطانا إياها وحرم منها غيرنا، فإدراك موسم الطاعات وسوق الخيرات، وأزمنة البركات نعمة، فعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،‍ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

٢- أن الله اختص جزاء الصوم لنفسه لا يعلمه أحد سواه -جل وعلا- يجازي به كيفما شاء، وما أعظم عطاء الرب -جل وعلا-: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) (متفق عليه)، بل إن مِن نعمه الكبرى وأفضاله العظمى أن جعل الصيام جنة، ووقاية من النار.

٣- فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران وتصفيد الشياطين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) (متفق عليه).

٤- الدعوات المستجابات، وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصَّائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).

5- جعل اغتنامه فرصة عظيمة للمغفرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ). فَلَمَّا نَزَلَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ، قُلْتُ: آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ. قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي، فَقَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ... ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

٦- الاجتماع على الصيام والقيام حتى لو في البيوت وإحساس المسلمين بالفقراء والمساكين، وأصحاب الحاجة، وزيادة الصدقات وكثرة التبرعات، برغم ما نحن فيه من وباء وبلاء وتعطيل لمعظم الأعمال والأشغال، ولكن كُثر خيره -بفضل الله-، بل إن الفقراء ينتظرون هذا الشهر لينعم الله عليهم بما شاء.

٧- أن الأخلاق تهذب، والنفوس تؤدب، والقلوب تقبل على القرآن وتكثر فيه أنواع الطاعات ويزداد إقبال الشاردين إلى حظيرة الإيمان، فتقل فيه حوادث الشر، وتكاد تندثر فيه الجرائم وتزاد الصلات بين كل الناس، وتقل الخصومات والعداوات، والأخذ بيد بعضهم البعض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتزايد كل مظاهر الخير.

٨- زيادة الدفء الأسري على المستوى الفردي وعلى المستوى المجتمعي.

٩- فرحة الناس بقدومه وسعادتهم بأيامه، بل أعلى نشوة لدى الجميع لحظات الفطر وابتهاج النفوس بها؛ فضلًا عن مظاهره والاستعداد له، وتهيئة الكبار والصغار بالأمور الدينية والدنيوية والمشاركات الموائدية للأسر المسلمة وإفطار الصائمين.

10- أن عبودية الصيام تعم الأرض كلها شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، فيشترك فيها جميع المسلمين من فقرائهم وأغنيائهم باختلاف بلدانهم ولغاتهم، فتشعرنا بالفخر والاعتزاز بهذا الدين.

١١- أن فيه ليلة خير من ألف شهر؛ ألا وهي ليلة القَدْر، قال الله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:1-3)، أي: تعادل مِن فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر (خالية منها)، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلًا، نيفًا وثمانين سنة (تفسير السعدي).

هذا ما تيسر جمعه ولله الفضل والمنة، فاللهم ارزقنا فيه العبادة التي ترضيك عنا، والعمل الذي ليس فيه لغيرك شريك، وأن تمن علينا بإدراك ليلة القدر وثوابها. اللهم آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.