الجرائم المجتمعية (الأسباب والعلاج)

  • 337

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن القلوب لتعتصر كمدًا وتحترق ألمًا، وتبكي دمًا من جراء ما يُسمع ويُرى يوميًّا من جرائم الشباب الحدثاء التي تشيب منها الرأس ويدوخ منها الدماغ، ويقف عندها العقل حائرًا متسائلًا: لماذا يتصارع هؤلاء الشباب مع بعضهم البعض؟! ولماذا أصبح العنف والبلطجة شعارًا لبعض أبنائنا؟ ولماذا زاد عند هذا الجيل تحديدًا دون غيره؟!

وما السبب الحقيقي وراء الاستخفاف بهذا الأمر والتهاون بهذا الشأن؟!

تساؤلات لابد أن تطرح إذا كنا نريد الإصلاح فعلًا والانتفاع بعقول وقوى هذا الجيل، ومعرفة من المسئول؛ خاصة ونحن غرضنا وتساؤلنا ليس لمجرد النقد المستفز، ولا لكشف العور ولا للتشهير والتنفير، ولا بنظرات اليائس المحبط؛ إنما بنظرات المشفق المحترق المكلوم؛ ديانة لله -تعالى-.

ونحن نرجو الصلاح والإصلاح لشباب بلدنا وجيل أمتنا ونخاف على أولادنا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا) (رواه البخاري).

لذا كان لزامًا علينا جميعًا أن نقف صفًّا واحدًا في علاج تلك الظاهرة، ونستشعر حجم الخطر، ونساعد في رفع تلك المعاناة، وهذا دور الدعاة والمصلحين والمربين؛ ولذا حاولت أن أبرز أهم الأسباب في نظري وعلى مَن يقع عبء المسئولية سائلًا ربي وربكم التوفيق والسداد.

السبب الأول: انشغال المحضن التربوي الأول (الأسرة) بأمور ثانوية، وترك الأمور الأساسية، والانشغال بالمظاهر وترك الجواهر، فبعض الآباء -وبكل أسف- منصرف عن دوره بحجج واهية في أصلها، وأولها: المال وتوفيره، وضمان مستقبل أولاده، وأنه الكيان المجتمعي لهم وسط الناس، وأنه سبيل لاحترامهم وتقديرهم من الجميع!

وتركهم يواجهون الشبهات والشهوات بلا حكمة ولا تجارب، ولا علم يدفعهما، ترك رعاية الزرع وحراسة النشء ومراقبة استقامته على دين الله -تعالى- وتعويده عليها وحمايته بها، فنسي دوره وغابت بصمته في واقع أبنائه وتجاربه عن حياتهم، وباتت بعض الأمهات هي الأخرى في وادٍ، والأولاد في واد آخر؛ شغلها وهمها الأكل والشرب وزينة الفرش، وجمال البيت، ومكانتها الاجتماعية، والظهور بمظاهر التحضر، وترك الحرية للأولاد وأنهم رقباء على أنفسهم!

 فيا ليتها علمتهم مراقبة الله -جل وعلا-، والحفاظ على فرائضه وحدوده!

فيا معاشر هؤلاء... ما محل التربية من قاموسكم؟ وما معناها في نظركم؟ ولماذا تطمحون في ثمرة وأنتم لم تعتنوا بها حتى مالت واعوجت؟!

روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ).

وبكل أسف زاد تقصيركم في تربيتكم، وتجاوز مرحلة عقوقكم، والمعاناة في بيوتكم؛ فصارت سيوفهم قبل ألسنتهم تقطع في رقاب أبناء الناس، وأنتم السبب الأول في الانحراف السلوكي، والاعوجاج المجتمعي لديهم؛ فمتى أيها الأب وأيتها الأم تستفيقان من سبات الغفلة، وتقدران حجم المسئولية، وتعرفان أن دوركما الأعظم في بيتكما وبين أبنائكما!

السبب الثاني: الطرح الإعلامي الفاسد المتمثل في أخطرها من: السينما والمسلسلات والمسرحيات، وطرحها المتآكل، ومادتها الرديئة، ولعبهم على أوتار الشهوات؛ تلكم الآلة التي عمت وطمت وسهلت وبررت الإعلام، فعلى مدار سنوات مرت وهو يحاول أن يغرس في الأجيال السابقة الحب والعشق المحرم، ثم تجاوزها إلى الاستهزاء والسخرية من كل فاضل وفاضلة!

ثم تجاوزها إلى تبرير الغدر والخيانة، والفحش؛ بحجج واهية، ثم يدفعهم الآن إلى العنف والبلطجة في هذا الجيل تحديدًا؛ فزاد من وتيرة العنف، وبرره بالشهامة والسيادة، وأن هذه هي اللغة الشبابية العصرية، وأن الدنيا تعاملها بالقوة ورعب الآخرين، وفرض السيطرة وأن الضعيف رغيف يؤكل، فصدَّر لنا البطولة في أقبح معانيها، ورفع شأن شخصيات بعينها وصدرها على أنها قدوات! والحقيقة خلاف ذلك؛ فأصبحنا نرى شبه يوميًّا جريمة تنخلع منها قلوب العباد، وتحترق بسببها قلوب الأمهات!

أفيقوا يا سادة كي تعود لنا القيادة؛ البيوت تئن من الإعلام المنحرف، والدنيا تتغير من حولنا، والأعداء يتربصون بنا؛ فاستبدلوا إعلام العنف والجنس بإعلام الخُلُق ونشر الفضيلة، وإحياء قضايا الأمة والحفاظ على الأوطان، وغرس الولاء في قلوب أبنائنا، وربطهم بالمساجد، وإيقاظهم من ظلمة المعاصي إلى نور الطاعة وطريق العبادة.

إعلامنا لابد أن يكون خادما لنا في ديننا ودنيانا.

فيا معاشر المصلحين والمربين... أوقفوا صناع الجرائم المجتمعية.

جففوا منابع الجريمة، وسددوا سهامكم نحو قادة المستقبل، وأشغلوا فكركم وأبحاثكم بصلاحهم وهدايتهم بأمر الله -تعالى-، واحذروا من أنياب أعدائكم فيهم.

السبب الثالث: اقتصار دور المدارس والجامعات على الحفظ والتلقين، والاختبار فيهما بعيدًا نوعًا ما عن بثِّ روح الأخلاق والقيم، ونشر الفضائل، وغياب روح تحمل المسئولية الجماعية في تقويم السلوك وإنتاج شخصية متميزة وتحسينها وتطويرها علميًّا وخُلقيًّا لدى كثيرٍ مِن المربين إلا ما رحم ربي، وتقليص دورهم على العلم فقط ربما يكون بسبب كثرة الأعباء والمسئوليات أو لأي أسباب أخرى، والأهم غياب الوعي الديني الذي يخدم ذلك عند بعضهم، وتقليص الطرح العلمي الهداف الموجود بين أبنائنا الذي قلت فيه قصص البطولة والفداء، والتضحية من أجل هذا الدين، ثم من أجل رفعة أوطانهم، فإن الأوطان تحفظ بالدين لا بالأغاني والشعارات، والأناشيد.

فلابد من توعية جميع المربين بعظم دورهم ومساندة أمرهم في النهوض بهذا الجيل، وهذا لن يتأتى إلا بإيقاظ الدين في قلوبهم، وإحياء ضمائرهم والصبر والاحتساب لله -تعالى-، وفرض القراءة في سير سلفهم، والاطلاع على علمهم بصورة أكثر، والبحث في كنوز التراث وإحياء الثقافة العامة والخاصة فيهم، فبعدهم عن القراءة أبعدهم كثيرًا عن أمجادهم، والتحفيز بالدرجات، وفتح المجال الوظيفي لا بالشهادات فقط؛ إنما بالممارسة والخبرة والثقافة.

إن السعي الدؤوب للأمم والشعوب من أجل البناء والنهوض، هو في الأساس سعيًا يُعد للأجيال القادمة ولمستقبل الأوطان، وهدمهم في الحقيقة إنما هو هدم في جدار الوطن.

فالله الله في أجيالنا الحالية؛ عرّفوهم الطريق، وأعدوهم للقيادة، وألزموهم بالسيادة في الدين والدنيا، واغرسوا فيهم أن الإيمان والتقوى هما سبب لجلب المنافع والخيرات والبركات للعباد والبلاد: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:٩٦).

فاللهم ارزقنا الإيمان والتقوى، وأصلح لنا نياتنا وذرياتنا وشئوننا كلها، وردنا إلى دينك ردًّا جميلًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.